مقالاتمقالات مختارة

سنة الإهلاك (فأهلكناهم بذنوبهم)

بقلم د. أمين الدميري

قال تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 54].

قد يبدو أن هنا تَكرارًا، وليس الأمر كذلك؛ لأن التشبيه الأول يربط بين نهاية كفار قريش وبين آل فرعون ومَن قبلهم؛ حيث عمِلت فيهم سُنةُ الأخذ بسبب الكفر بآيات الله التي عُرِضت عليهم، سواء كانت آيات كونية، أو معجزاتٍ حسيَّة، وبسبب الذنوب التي صاحَبَتِ الكفر بآيات الله، ومنها الاستكبار في الأرض بغير الحق، وإيذاء الرسل، والسخرية منهم ومِن تابعيهم من المؤمنين، وغير ذلك.

أما التشبيه هنا، فهو يربط بين هلاك المكذِّبين من قريش، وبين آل فرعون وأمثالهم؛ حيث عمِلت فيهم سُنة الإهلاك بسبب أنهم كفَروا بنِعَم الله عليهم، وجحدوا فضائل الربوبية، وإحسان المنعم المتفضِّل بالخيرات والبركات، ومنها نعمة الحياة والإيجاد، ونعم السمع والبصر، والصحة والعقل، وألوان الثمار، والماء والهواء، وتسخير الحيوان، وتمهيد الأرض وإعدادها للحياة، ومما لا يحصى مِن نعمه وفضائله، فهؤلاء وأمثالهم بدَلَ أن يشكروها كفَرُوها، يقول عز وجل: ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ﴾.

يقول الألوسي: (والالتفات إلى نون العظمة في “أهلكنا” جَريًا على سنن الكبرياء؛ لتهويل الخطب)[1]، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَأَغْرَقْنَا ﴾.

ويقول: (قوله تعالى: ﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ تفسيرٌ لدَأْبهم الذي فعَلوه من تغييرهم لحالهم، وأُشِير بلفظ الرب إلى أن ذلك التغيير كان بكفران نِعَمِه تعالى؛ لِمَا فيه من الدلالة على أنه مربِّيهم، والمُنعِم عليهم، وقوله تعالى: ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ تفسيرٌ لدَأْبهم الذي فعل بهم مِن تغييره تعالى ما بهم من نعمته جل شأنه.

وفي الإهلاك رمزٌ إلى التغيير؛ ولذا عبَّر به دون الأخذ المعبَّر به أولًا، وليس الأخذ مثله في ذلك؛ ألا ترى أنه كثيرًا ما يطلق الإهلاك على إخراج الشيء عن نظامه الذي هو عليه؟ ولم نرَ إطلاق الأخذ على ذلك) [2].

وهذا الفرق بين الأخذ (في التشبيه الأول) والإهلاك (في التشبيه الثاني) يُوضِّحه أيضًا الشيخ محمد متولي الشعراوي، فيقول:

(فالآية الأولى: ﴿ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾، وفي الآية الثانية: ﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾، والآية الأولى تدلُّ على أنهم كفَروا بالآيات الكونية المثبِتة لوجود الله تعالى، وآيات الرسل، وآيات الكتب التي أنزلت إليهم، وفي هذه الآية ﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾؛ أي: لم يَصُونوا النِّعَم التي أعطاها الله لهم، فنِعَمُ الله عطاءُ ربوبية، وتكاليفُه ومنهجه عطاءُ ألوهية، وهم في الآية الأولى كذَّبوا بعطاء الألوهية؛ أي: كفروا بالله، وفي الآية الثانية كذَّبوا بعطاء الربوية؛ أي: بنِعَم الله، فعطاء الربوبية هو عطاء رب خَلَق مِن عدم، وأمدَّ من عدم لتكتمل للإنسان مقومات حياته، والله يساوي في عطاء الربوبية بين المؤمن والكافر، وبين العاصي والطائع، ولا يُفرِّق بينهم بسبب الإيمان أو الكفر، وهنا يقول تعالى: ﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 54]؛ أي: لم يكن بينهم مؤمن وكافر بحيث يكون هناك تفرقةٌ بأن يُنجِّيَ المؤمنين ويُغرِقَ الكافرين، بل كلهم ظلموا أنفسهم بالكفر؛ لذا قال تعالى: ﴿ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾)[3].

ومِن هنا يتبين ما يلي:

أولًا: أن الكفرَ بدلائل الألوهية وما يصاحبه من عناد واعتداء، وصد عن سبيل الله، ومحاولات تثبيت الكفر واجتثات جذور الإيمان – يستوجب إعمال سُنة الأخذ، وهي الاستئصال قديمًا (بسنة عامة؛ كخسف، أو صيحة، أو غرق)، ثم سُنة الأخذ بضرب الرقاب والإثخان والحَسِّ[4]؛ أي: الاستئصال بالقتل، والقتال الذي شرعه الله تعالى في التوراة والإنجيل والقرآن، فقد كلَّف الله تعالى المؤمنين الموحِّدين بقتال الكافرين بدلائل التوحيد، المشركين بالله المتفرد بالألوهية، ووعدهم على ذلك بالجنة إن قُتلوا، أو بالظهور على عدوهم وبالتمكين لهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 10 – 144].

أي: إن الله تعالى كلف المؤمنين بجهاد الكافرين لنَيْل النصر أو الشهادة، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴾ [التوبة: 52].

ثانيًا: أن قانون الرقي والانحطاط يخضع لنظام إلهيٍّ مُحكَم، وهو أن التغيير يبدأ من الداخل، وأن استجلاب الانحطاط والنِّقَم يبدأ بالجحود والتمرد على المنعم سبحانه، وتصريفِ النعم في الفساد والإفساد، وذلك حينما تتغير النفوس وتميل إلى الطغيان، وحينما تفسدُ الفطرة، ينشأ الشذوذ، وتعم الفواحش، فتفسد الحياة وتتعطل مصالح العباد، وتضيع الحقوق، فتنقلب الأوضاع إلى كلِّ ما هو أسوأ، وتتحوَّل النِّعَم إلى نِقَم، ويشكو الناس الضنك والأزمات، ويسلَّط الناس بعضهم على بعض، ويذوق بعضُهم بأسَ بعض، فتذهب الريح (الدولة)، ويتحقق التغيير إلى الانحطاط، وذلك بما كسبت أيدي الناس، أما إذا كان الحال هو الضعف والانحطاط وأراد الناس الرقي، فإن التغيير يبدأ مِن داخل النفس، فإذا أصلح الناس أنفسَهم، وأصلحوا فيما بينهم، وتمسَّكوا بأحسنِ الأخلاق وأكمل الفضائل، وتواصى الناس فيما بينهم بخُلق الإيثار والحب والتعاون والشجاعة والمروءة، والعدل والإحسان في كل شيء، فإن الله تعالى يُغيِّر حالهم إلى الرقي، قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 111].

ثالثًا: أن الله تعالى سخَّر كلَّ ما في الكون لصالح الإنسان؛ لكي يعمر الأرض ويصلح فيها، والناس في معايشهم يحتاج بعضهم إلى بعض، فالإنسان اجتماعي بطبعه، فإذا تحقَّق النفع والصلاح لعامة البشر، وصُرِفت النِّعَم فيما جُعِلت له وخُلقت من أجله، فإن النِّعم تنمو وتستمر، أما إذا حدثت الأثرة والشح، وصُرفت النعم في الإفساد، والاستعلاء والطغيان، فإن ذلك يعدُّ جحودًا، وتكون العاقبة الحرمان من تلك النعم وتحولها إلى نقم.

إن شكر النعم يكون بتصريفها في الخير وفي النفع العام لجميع البشر، وإذا حدث الشكر تمَّتِ النعمة ونَمَت، وإلا فلا تمت ولا نمت، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15 – 177]، فكان الكفر والإعراض من أسباب التبديل والعذاب.

رابعًا: أن الأيام دول، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]، والصراع بين الأمم قديمٌ، وكم من دولٍ قامت ثم آلت إلى السقوط، وكم مِن حضارات نشأت ثم دُمِّرت، وذلك على مدار التاريخ البشري.

وإذا كان علماء الاجتماع قد قالوا: إن أعمار الدول كأعمار الأشخاص، وعلى حسب متوسط أعمار الأشخاص يكون متوسط أعمار الدول[5]، إلا أن هناك أسبابًا لسقوط الدول وعوامل للرقي، وأخرى للمحافظة عليه، والسؤال هنا أن الأمة الآتية كيف تكون؟ إنها تكون أنفع للخلق من الأمة الذاهبة، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]؛ أي: تحلُّ أمةٌ صالحة مكان أمةٍ غير صالحة، وهي تواصل عمل الحق والعدل والارتقاء والبناء، أما مستوجبات القيام والبناء، فهي كما جاء في كتاب (النظام الإلهي للرقي والانحطاط): – (قد أوجب القرآن الكريم للقيام والبقاء شيئينِ أساسيين، وهما مطابقان للفطرة والمكانة الإنسانية:

1- التنظيم الأعلى للأخلاق.

2- سلسلة ارتقاء المادية.

ولو أهمل أحدهما فلا يكون القوم أصلح في المجال العلمي، ولا يكون هناك ضمان لقيامه وبقائه؛ أي: إن صرفت العناية إلى المادة ولم يتم معها تنظيم التصورات العالية والقيم الخلقية، فإن هذه المادة تصير غير مفيدة، بل مدمرة، ونجد في تاريخ الأمم أمثلةً كثيرة، فكم وصلت أمة إلى الصدارة بإحداث تغييرات خلقية عديدة في البداية، ولكنها اتَّجهت فيما بعد إلى المادة كليًّا، فهلكت وضاعت، وكذلك إذا لم يتم ارتقاء المادية مع التصورات العالية والقيم الخلقية، فلا تنشأ مدنية قوية ولا يضمن بقاء، وفي التاريخ أمثلة لأمم ذهبت حضارتها ومدنيَّتها حينما انتهت سلسلة الارتقاء المادي بعد ذهاب سلطتها، ثم بالتدريج فَنِيَتِ الأمةُ نفسها، وقد أثبت القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 600].

وفي الآية أمرٌ بالأخذ بوسائل القوَّة في كل وقت، وبذلك يعلم أنه لا توجد مرحلةٌ من مراحل الحياة يُستَغنَى فيها عن المادية، أما الأوصاف الخلقية التي تنظم الحياة، وتجعل الرقي المادي نافعًا للبشرية؛ مثل الإيمان واليقين، والإيثار والتضحية، والتوكل، والعدل، وغير ذلك – فهناك آيتان تتعلَّقان بتنظيم الأخلاق، هما قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [المائدة: 8]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ [النساء: 1355].

والحاصل أنه يجب تنظيم الأخلاق على مستوى أعلى دون أن يؤثر فيه عداءٌ لقوم، أو انحياز لقريب، أو مراعاة للذات، وقد أولى القرآن الكريم في الحياة القومية والجماعيةِ العدالةَ[6] أهميةً بالغة، والنظرُ الدقيق يكشف لنا أن أساس محاسن الأعمال كلها، وخلاصة الأخلاق القويمة – هي هذه الصفة) [7].

فهذه قريش قد تهاوَتْ؛ لأنها قد أصابها الهَرَم، ولم يَعُدْ في بقائها فائدةٌ، فقد انحرفت عن الفطرة السليمة، وعبدوا أصنامًا صنعوها بأيديهم، كما قد دبَّتْ فيهم أمراض السقوط، وتسرَّبت فيهم جراثيم الفساد، فظلموا العباد، واستكبروا في الأرض بغير الحق، وتعقَّبوا المسلمين ليفتنوهم ويصدوا الناس عن سبيل الله، كما فعل آل فرعون من قبلُ، فانتقم الله منهم جزاءَ صنيعهم، ولم تنفعهم قوتهم ولا كِبْرياؤهم، وهذه سُنة الله في الأولين والآخرين؛ أن كفران النعم إيذانٌ بزوالها وتحوُّلها إلى نقم، وأن شكر النعم إنما يكون بالإصلاح في الأرض وإقامة العدل، وفي ذلك بقاء النعم ودوامها ونماؤها، وهو طريق الرقي.


[1] روح المعاني، ج6، ص29.

[2] المرجع السابق، ص27.

[3] تفسير الشعراوي، ص4761.

[4] الاستئصال بالقتل؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ [آل عمران: 152]، وانظر: مختار الصحاح مادة (ح س س).

[5] يقول ابن خلدون في المقدمة: “علم أن العمر الطبيعي للأشخاص مائة وعشرون سنة، ويختلف العمر في كل جيل؛ فيزيد أو ينقص، وأن أعمار هذه الملَّة ما بين الستين إلى السبعين – (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك))؛ قال الترمذي: حسن غريب، حديث رقم 3550) – وإن أعمار الدول أيضًا لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته؛ قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ [الأحقاف: 155]؛ ولهذا قلنا: إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل، ويؤيد ما ذكرناه في حكمة التِّيه الذي وقع في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين منه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرَفوه، فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد، وإنما قلنا: إن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال؛ لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش..، فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون، والجيل الثاني تحوَّل حالهم بالملك والترفُّه عن البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به (ولعله التسلط وحكم الفرد) وكسل الباقين عن السعي فيه، ومِن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سَوْرَة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع، ويبقي لهم الكثير من ذلك، وأما الجيل الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايتَه، والنعم وغضارة العيش، فيصيرون عيالًا على الدولة، وتسقط العصبية بالجملة، ويَنسَون الحماية والمدافعة والمطالبة، ويلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها، وَهُمْ في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها، فإذا جاء المطالِب لهم لم يقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذٍ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع مَن يغني عن الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت، فهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مر، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب، فيكون الهرم حاصلًا مستوليًا، والطالب لم يحضرها، ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعًا، ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]، فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزيد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع”؛ انظر: مقدمة ابن خلدون، فصل 14، ص1888، المكتبة التوفيقية، (باختصار).

[6] العدل: هو مجموعة الفضائل، والأصول الثلاثة للفضائل هي: (العفة، والحكمة، والشجاعة)، وفروعها فروع العدل، وقيل: هو اسم يطلق على الترتيب اللازم للقوة العقلية والشهوانية، ثم ظهور هذه القوى وَفْقَ هذا الترتيب، وقيل: هو مَلَكة في النفس تصدُرُ عنها الأفعال التي يقام بها نظام المدنية والحياة بسهولة، وقيل: هو القسط والموازنة؛ وانظر: النظام الإلهي للرقي والانحطاط؛ محمد تقي أمين، ص72.

[7] المرجع السابق.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى