مقالاتمقالات المنتدى

سمير حمدي يكتب: عن الانتحار والمسألة الأخلاقية

سمير حمدي يكتب: عن الانتحار والمسألة الأخلاقية

 

خاص بمنتدى العلماء | سمير حمدي (كاتب من تونس)

 

شهدت تونس في الآونة الأخيرة حوادث انتحار متكررة غالبها لأسباب اجتماعية مرتبطة بظروف البطالة والفقر أو لمشاكل عائلية، ولا تقتصر الظاهرة على البلاد التونسية حيث تكشف الأخبار الواردة من بلدان مختلفة عن تصاعد ملفت للظاهرة.

الحقيقة ان العامل الاجتماعي وحده لا يكفي لتفسير الظاهرة فهو يتقاطع مع عوامل نفسية وحتى عوامل وراثية بيولوجية، خاصة في ما يتعلق بما يمكن تسميته بالموت الاحتجاجي. غير أن السؤال المُلحّ دوما هل أن ظرف اجتماعي مهما كان غير ملائم يفضي بالضرورة الى قتل النفس؟

لقد عاش الناس في تونس وفي غيرها من البلدان العربية ظروفا اجتماعية سيئة في الماضي حيث كان مستوى الدخل اقل بكثير والمتابعة الصحية غائبة ودرجة التمدرس اقل بكثير ومع ذلك لم يعرف الناس فكرة الانتحار. كان الإنسان الفقير وشبه الأمي أكثر إيمانا بقدسية الذات البشرية وحرمة الحياة ويربط مصيره بنمط من الإيمان القدري أن الرزق من عند الله وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه.

في المقابل يبدو الجيل الجديد أكثر عدمية وميلا الى رؤية الحياة بشكل سوداوي وعوضا عن المطالبة بحقه يختار أن ينتقم من ذاته بنمط من التفكير السلبي المدمر.

إن هذا النمط من السلوك الانتحاري القائم على رؤية عدمية للحياة دليل على فشل المنظومة التربوية واختلال نظام الأسرة وانهيار سلّم القيم، فليس من الممكن ان ينشأ جيل بمثل هذا الإحباط والاستعداد للهزيمة النفسية إلا بسبب طريقة التنشئة التي خضع لها والتي ركزت على الفردانية المطلقة وهيمنة منطق المصلحة بصورتها البراغماتية حيث يغيب منطق التآزر والتضامن بل وافتقاد روح الإنسانية وإلا ما معنى أن يعلن كاتب شاب على موقع للتواصل الاجتماعي يتابعه الآلاف أنه يستعد للانتحار محددا اليوم والساعة ورغم ذلك لا يتدخل أحد لإقناعه بالعدول عن رأيه لينشغل الجميع بعد رحيله بالبكاء عليه وتحليل دوافع موته، وليس بعيدا عن هذا الحدث، كيف يظهر صحفي شاب في نقل مباشر على الانترنت ليقول أنه سينتحر احتجاجا على الوضع الاجتماعي ليكتفي أصدقاؤه المحيطين به بتصويره بشاشات هواتفهم الجوالة وهو يتحدث، لينقلوا بعدها خبر احتراقه دون أن يتدخل أحد منهم لمنعه، كيف يمكن تفسير هذه العدمية المقيتة وروح اللامبالاة القاتلة التي تجعل البعض يستمتع بتصوير إنسان أخر وهو يقتل نفسه دون أن يبذل جهدا لمنعه بالإقناع أو حتى بالقوة إن لزم الأمر لأن هذا النمط من الميول الانتحارية يكون في الغالب نتاجا لاكتئاب مزمن أو ضغط نفسي حاد تعرض له الضحية وسط محيطه الاجتماعي.

يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في دراسته المهمة عن الانتحار أن “الدين يحمي الإنسان من الرغبة في تحطيم الذات”، وهذه الفكرة الأساسية تتجلى في الإسلام الذي يمنع الانتحار بشكل قطعي لأنه  يؤكد على قداسة الحياة بل ويحمّل المنتحر مسؤولية فعله كالقاتل تماما يقول الله عز وجل في كتابه الكريم ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 29، 30]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم “من قتَل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن شَرِب سُمًّا، فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبل، فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا” رواه مسلم.

فالمسألة الأخلاقية والمنظومة القيمية تجد منبعها في الدين حتى وإن اقترنت بأنساق فكرية غير دينية، بمعنى أن الأخلاق المتعالية عن المصالح والمنفعة هي في جوهرها أخلاق دينية وكما يقول علي عزت بيغوفيتش “”الدين مهد الأخلاق اللاّ دينية التي جاء بها، بحيث تكون حقيقة الأخلاقي اللاّ ديني أنه أخلاقي ديني متنكر، ودليل تنكره إنكاره للحاجة إلى الحقيقة الدينية قولا والإقرار بها فعلا” ولهذا كلما تحولت المنظومة الأخلاقية الى جزء من نظام المنفعة كلما فقدت تأثيرها وهذا ما يفسّر تصاعد حالات الانتحار المرتبطة بالأزمات الاقتصادية والحاجات المادية رغم تحسّن الأوضاع المادية حاليا وارتفاع نسبة التعليم فإن غياب الإيمان بالقضايا الأخلاقية يجعل الانتحار احد الحلول الممكنة التي يلجأ إليها جزء من هذا الجيل للخلاص من مشاكله. فليست الأخلاق مما يمكن تأسيسه على المصالح ولا يمكن ربطها بحسابات دنيوية صرفة بقدر ما ترتبط أساسا بالمسألة الدينية ولهذا كانت النزعات العدمية هي الأكثر ميلا لتبرير قتل النفس ونجد هذا معلنا في كتابات الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو حيث يتحول “الانتحار الى القضية المركزية للفلسفة أي هل أن الحياة جديرة بأن تُعاش أم لا؟”. بالمقابل فإن المبدأ الإسلامي العام يجعل الحياة مرتبطة بالمسؤولية الشخصية للفرد والمسؤولية الجماعية للمجتمع من خلال نظامي الإيمان (باعتبار أن الإيمان بالله يحمّلنا مسؤولية الحرص على حياتنا بوصفها أمانة إلهية) ونظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي يقوم على فكرة بناء شخصية الإنسان الايجابي الفاعل بعيدا عن العدمية واللامبالاة وحرية استواء الطرفين وإنما ينبغي ان يكون للإنسان موقفا حاسما جوهره حفظ الذات الإنسانية من كل أشكال الانتهاك حتى التي تلحقها من صاحبها، على أن ارتباط الأخلاق بالدين لا تعني بالضرورة أن كل متديّن هو إنسان أخلاقي “فمن الممكن أن نتصور رجل دين لا أخلاق له وبالعكس” كما يؤكد بيغوفيتش، لأن الدين هو المنهج النظري الذي يؤسس للمنظومة الأخلاقية أما الأخلاق ذاتها فترتبط بالممارسات الفردية والجماعية للبشر ومدى اقتناعهم بها، ولهذا فإن كل تصور أخلاقي إنما هو نتاج لرؤية دينية حتى وإن اضمحلت بقيت آثارها ومن هنا يمكن التأكيد قولا واحدا مع بيغوفيتش “يوجد ملحدون على أخلاق ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي”.

فما أحوج الجيل الجديد الى استعادة هذه الروح الإيمانية لتكون دافعا له من اجل مجابهة الحياة والتقدم نحو مستقبل أفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى