مقالاتمقالات مختارة

سلاح المقاطعة الاقتصادية

سلاح المقاطعة الاقتصادية

بقلم أحمد طه

هذا العالم الدنيوي لا يحكمه (الحق)، و(العدل) إنما تحكمه (القوى).. ولقد كان من الأدوار الأساسية السياسية لإخراج الأمة المسلمة هو: قيامها بـ (الحق والعدل)، والانتصار للمظلوم، والأخذ على يد الظالم.. ولكن عندما فقدت عزتها، وريادتها وضاع ملكها؛ أصحبت “ذليلة تابعة”.. فقام العالم على أساس (القوة) ولا شيء غيرها.

فرنسا عندما استفزت مشاعر المسلمين ـ بالرسوم المسيئة ـ وفرضت تصورها وفكرها فرضاً بـ (القوة) واعتبرت ذلك (حرية تعبير) ومن يرد عليها فهو يروج لـ (خطاب الكراهية) إنما كانت تمارس أسلوب (القوة) لا (الحق) فهي التي تقرر ما تشاء من الموازين، وترد ما تشاء، ولا تُسأل ـ من العبيد الأذلاء ـ عن ما تفعل، فما تصفه بـ “حرية التعبير” فهو هكذا، ولا حق للأذلاء ممارسة هذه الحرية إلا بإذن الأقوياء، وفي المجال الذي يحدده الأقوياء.. وما تدمغه بـ “خطاب الكراهية والإرهاب” فهو كذلك، ولا حق للعبيد مناقشة السيد في المعاني والمقاصد، وعقد المقارنات.. فما على العبيد إلا السمع والطاعة!

ففرنسا ـ وغيرها من دول أوروبا ـ عندما تسب الإسلام والمسلمين، وتَهين مقدساتهم.. فإنها تعرف إنهم ضعفاء، وتحت الهيمنة الدولية الخارجية، وتحت أنظمة مُعادية موالية للغرب داخلياً.. ومن ثم لا تجد في نفسها “حرجاً ولا تناقضاً ولا ظلماً” فهي تمارس حقها كدولة قوية، ضمن اتحاد أوروبي.. ومن ثم فهي تجد نفسها في مأمن من “ردة الفعل”!

وهي هي فرنسا التي مارست أبشع صور الإرهاب الوحشي في الدول التي احتلتها، وهي مازالت تحتل إفريقيا وتسرق ثرواتها بلا حساب ولا رقيب، وأبادت شعوب، وقتلت وأرهبت من تشاء، ومع ذلك تتصدر للعالم باسم “الأنوار، والحرية” لأنها قوية.. ومن قوتها تُحدد “القيم والموازين” وتحتكر تفسير المعاني، فما تمارسه من إرهاب وإبادة وسرقة.. هو “تحرير ونشر للديمقراطية”، ومن يعترض عليها بالقول أو بالفعل فهو “راديكالي متطرف رجعي” يجب القضاء عليه!

***

ولما غضب المسلمون لنبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغضب العفوي الفطري المحمود.. استهزأت بهم أول الأمر، وراحت تتهم الغاضبين بالراديكالية والتطرف والإرهاب وخطاب الكراهية… إلخ، ولما حاول المسلمون إشهار “سلاح المقاطعة”.. أصدرت الخارجية الفرنسية بياناً متعجرفاً تأمر فيها الحكومات الذليلة في الشرق الأوسط بمنع هذه المقاطعة!

ولما استمر المسلمون في استخدام هذا السلاح ـ على ضعفه ـ وتوسعت دائرة المقاطعة عالمياً، وقبل أن يصل تأثير السلاح إلى مستواه الفعّال، خرج رئيس فرنسا على “قناة الجزيرة”.. ليعتذر اعتذاراً ضمنياً على ما قاله، وقال: “إنه لا يتبنى الرسوم المسيئة، وكلامه فُهم على نحو خاطئ”! رغم إنه قال عن المدرس المجرم ـ الذي روج للرسوم في حصة دراسية، وقتله شاب شيشاني (رحمه الله) ـ : “إن هذا المدرس هو وجه الجمهورية”، وقال: “لن نتخلى عن الرسوم المسيئة”، ونشروا الرسوم المسيئة على مبان حكومية! وقال قبل الرسوم المسيئة: “ الإسلام يعيش أزمة في كل أنحاء العالم” “وإنه سيحارب (الإسلام الانفصالي) والذي في نظره تمسك المسلمين ببعض شعائر دينهم كالحجاب”.. كلام وتصرفات لا تحتمل أي تأويل! وكلام ينم عن الحقد تجاه هذا الدين، وكراهية له، فبدت البغضاء من أفواههم، وما تُخفي صدورهم أكبر.

ولقد تعمدت فرنسا اختيار قناة الجزيرة ليظهر عليها.. لأن لها شعبية في المجتمعات المسلمة، فلم يختر قناة العربية أو سكاي نيوز لأنهم يدركون أن الشعوب لا تسمع لهم، ولا تهتم للقاءاتهم.

ظهر ماكرون على الجزيرة ليس بسبب احترام الإسلام، ولا المسلمين.. إنما بسبب “التلويح” باستخدام القوة.. وهذه القوة كانت في أضعف صورها وهي: “سلاح المقاطعة”، والتي قالت تقارير فرنسية ـ قبل لقائه على الجزيرة ـ إن الاقتصاد الفرنسي يعاني من مشكلات جوهرية بسبب فيروس كورونا، فإذا استمر سلاح المقاطعة فستكون النتائج كارثية..

ورغم إن سلاح المقاطعة حتى يكون له التأثير الفعّال لا بد أن تتبناه الدولة، وتستخدم سلطتها في محاصرة البضائع الفرنسية، والقضاء على تنافسيتها، وتقييد حريتها، وتشديد إجراءات دخولها من المنافذ، وفرض الرسوم الجمركية، وإيجاد البدائل الأخرى… إلخ. ولأن الحكومات المعادية لدينها وأوطانها لا تفعل ذلك.. وتبنت الشعوب هذا السلاح، الذي هو غاية ما تستطيعه حتى الآن.. ورغم إن فاعليته حتى يظهر تأثيرها تحتاج المقاطعة من حوالي “شهرين” إلى “ثلاثة أشهر” متتالية؛ حتى تتوقف “سلسلة التوريد” و”سلاسل الإمداد” فترتد على المصانع الفرنسية بالركود، والتوقف.. ورغم إننا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، أسرع رئيس فرنسا للخروج على الجزيرة!

نستفيد من ذلك: إن العالم لا يحترم إلا الأقوياء، ومخاطبته بالحق والعدل، واحترام القيم التي ينادي بها، والمبادئ التي يدعو إليها.. يبدو خطاباً مضحكاً ساذجاً بالنسبة لهم، وخطاباً ذليلاً خانعاً مَهيناً بالنسبة لمن يدعوهم.. المعادلة: إذا أردت أن يحترمك العالم.. فقط كن قوياً، بل فقط لوح باستخدام القوة، عندها ـ وعندها فقط ـ سيحترمك الجميع! ولهذا قال تعالى لنا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ…﴾ [الأنفال (60)]

وعندها لن نرهق أنفسنا بالقول: لماذا لا يندرج تحت حرية التعبير “السخرية من اليهود”، ولمَ لا يندرج تحتها “السخرية من رئيس فرنسا”… إلخ؟! لأن العبرة ليست بتوحيد القيم والموازين.. إنما بـ “ميزان القوة“.

كما يجب علينا التفرقة بين كراهيتين:

(1) كراهية الجهالة والتسميم: والتي يكون عليها كثير من الغربيين تجاه الإسلام، منشأه رجال الدين الكنسي.. الذي يغذون أتباعهم بأكاذيب ودجل تجعل أتباعهم يكرهون الإسلام والمسلمين.. ثم عندما يكتشف هؤلاء الخديعة، ويكتشفون أنهم كانوا ضحايا دعايات كاذبة مسمومة، يدخلون في الإسلام فوراً، ويدافعون عنه أشد من أبنائه الأصلاء! أو على الأقل لا يُناصِبونه العداء، أو يحملون في قلوبهم البغضاء.

(2) كراهية العداء والحرب: والتي يكون عليها الساسة ونظم الهيمنة العالمية، والتي تهدف إلى محاربة الإسلام والمسلمين حرباً لا هوادة فيها.. تستهدف حصر الإسلام، ومنع انتشاره، ومنع الدفاع عنه بالقول والفعل، والعمل على اختراع إسلام يناسب أوروبا فتقر منه ما تشاء، وتحذف ما تشاء! وتعمل على تفتيت الدول الإسلامية، وحصارها فكرياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وضمان الهيمنة التامة عليها، وضمان هيمنة الثقافة والحضارة الغربية، ومنع الإسلام من منافسة العلمانية الغربية كشريعة ومنهاج حياة.

وعندما نميز الفرق بينهما، نستطيع ـ عندما نقرر العمل إن شاء الله ـ أن نعالج كل أمر بما يكافئه، وبما يستحقه.

***

وأمر آخر لا يجب الغفلة عنه: إنَّ استفزاز مشاعر ومقدسات المسلمين، يجعلهم يخرجون أفضل ما فيهم، ويجعلهم في وحدة شعورية، وتضامنية، يكتشفون معها فجأة إنهم “أقوياء”، وإنهم يستطيعون فعل الكثير! وإن الخير مازال فيهم ـ مهما كان العصيان! ـ وهذا أخوف ما يخافه الطغاة في بلادنا، وأولياء أمورهم في بلاد الغرب، فهم يفضلون ذوبان المسلمين في الأمم الغربية شعوراً وفكراً وواقعاً.. والانبهار بهم، وتقليدهم.. حتى لا يتحدون ضدهم! ويتفضلون عليهم باسم احترام حقوق الإنسان… إلخ من هذا الدجل. لذا فتصرفات فرنسا يعتبرها عقلاء أوروبا وأجهزة استخباراتهم تصرفات حمقاء، تُفسد عليهم خططهم.

***

على إن المقاطعة للبضائع الفرنسية ـ وغيرها ـ لا بد وأن تكون من قبل الإساءة، ومن بعدها.. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والأمة جسد واحد.. وإذ يُقبل الناس على البضائع الفرنسية لجودتها، فلا بد من معالجة “مشكلة الجودة”، والإسلام أمرنا بالإتقان والإحسان في كل شيء، وعند الحاجة لا بد أن نأخذ من المسلم أولاً (الأقرب فالأقرب)، وإنْ احتاجنا من غير المسلمين شيئاً عملنا على نقله لبلادنا لنقل الخبرات، وتوطين التقنيات والمهارات، وتشغيل العمالة، وحماية السوق، وبقاء الخير بيننا.. ولا يفعل ذلك إلا الحكومات المخلصة لدينها وأوطانها، أما الحكومات الخائنة فإنما تمضي في عكس هذا الطريق تماماً، بل وتبيع لهم مقدرات وثروات البلاد بعد أن تكون سرقت النصيب الأكبر منها. بل وتدافع عن فرنسا ـ على سبيل المثال ـ كيداً في الإسلام والمسلمين، كما قالت الإمارات إنهم ستدعم الاقتصاد الفرنسي، وكما استقبل أمير مكة السفير الفرنسي بمكة، رغم إن البعثة الدبلوماسية والخارجية مقرها بالعاصمة الرياض، وحرّم أئمتهم المضلين المقاطعة، وأصدروا بيانات تأييد لفرنسا بعضها بشكل مباشر، وبعضها بشكل غير مباشر، ومنعوا الحديث عن جريمة فرنسا بخطب الجمعة، إلا أن تكون تخذيلاً للمسلمين، وتفريقاً بينهم..

ولما استمرت غضبة المسلمين، وتبني بعض الدول ـ كتركيا ـ المقاطعة الشعبية هذه.. رأت أجهزة المخابرات، إن الإجهاز على هذه الحملة إعلامياً وعن طريق رجال دينهم قد فشلت، أسرعت بالتوجيه للرؤساء بالحديث عن إساءة فرنسا! حتى لا تهتز صورتهم الشعبية!

***

إنَّ تطاول رئيس فرنسا على رسولنا ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ منشأه الحقد الدفين تجاه الإسلام والمسلمين.. والشعور الحقيقي الذي تُكنه أوروبا الصليبية تجاه الإسلام! ولقد تجاوز هذا التطاول حتى حدود الدبلوماسية والبروتوكولات المعروفة سياسياً..

ولكن رئيس فرنسا لم يجرؤ على ذلك، إلا لعمله أن حكام بلادنا يحاربون الإسلام والمسلمين أكثر منه! ويقاتلون المسلمين مثله، وأشد كراهية للإسلام مثله أو أكثر منه!! لذا لم يراعِ مشاعرنا لأننا أصبحنا “غثاء سيل”، وإنهم ليتعجبون عندما يرون رد فعل هنا أو هناك، فهم يحسبوننا قطيع مستسلم تحت سطوة الطغاة.. لذا إن من العجب الشديد انتظار غضبة هؤلاء لرسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهؤلاء الحكام أشد نفاقاً من ابن سلول رأس المنافقين على عهد النبي عليه السلام.

وإننا أمام مسؤولية تاريخية للخروج من هذه الغثائية، والتحول من حالة التشرذم إلى حالة القوة الفاعلة، واليوم إذ أفلست الحركة الإسلامية ومشروعاتها، فلا بد إذاً من ميلاد جديد، وعودة تستلهم نور القرآن الكريم ـ بعيداً عن أي أيديولوجيات ـ وتستفيد من تجارب الماضي المريرة، من أجل محاولة الخروج بالأمة من هذا التيه، وتحريرها من الطغاة المحتلين لها.

***

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى