مقالاتمقالات المنتدى

رحيل الكبار سراجٌ للسالكين والأبرار

رحيل الكبار سراجٌ للسالكين والأبرار

بقلم د. محمد بن محمد الأسطل( خاص بالمنتدى)

رحل إلى الله تعالى قبل قليلٍ الشيخ أبو إسحاق الحويني عليه رحمة الله، وقد رأيت أقلام الثناء عليه والدعاء له تملأ الفضاء الإلكتروني بعد هذه الحياة الممتدة في العلم والدعوة ونشر الخير وبذل المعروف والنصيحة للأمة.

وقد قفز إلى ذهني أمرٌ ما من حياة الشيخ رحمه الله ما عاد يُذكَرُ في السنوات الأخيرة إلا على قلة، وقد رأيت أن أُبرِزَه وأن أضم في تقرير المعنى تناول شخصيةٍ أخرى من الكبار الذين رحلوا إلى الله تعالى مؤخرًا كان يحضرني نفس الأمر فيها أيضًا، وأوسِّط الحديث عنهما بشخصيةٍ ثالثة تقرر المقصود العام من موعظة المقال.

وأختار جانبًا واحدًا من حياة كل شخصية إيجازًا.

أما أبو إسحاق الحويني فإنه رجلُ علمٍ ودعوة، وفضله مستفيضٌ ممتد، إلا أنه من الشخصيات التي حصل الجدل حولها في بعض المساحات، واختلف الناس فيها بين مادحٍ وقادح، وذلك من نحو عقدٍ أو عقدين من الزمان، وبعض ما قيل بحقه كان حقًّا وبعضه لم يكن حقًّا.

إلا أنَّ الرجل لما بقي حريصًا على اتباع السنة متحريًا للأدب مع الموافق والمخالف، وكثرت شواهد خشية الله في كلامه، وصارت عنايته تزداد توفرًا على قضايا الأمة وهمومها مع زيادة ظاهرةٍ متصاعدةٍ في اللطف والأدب والأهلية والشعور بالمسؤولية.. فقد احتمل الناس ما وجدوه عليه، واجتمعت القلوب على حبه، حتى لا يكاد أحدٌ يذكر ما كان من الأخذ والرد، لينتهي المشهد بهذه الخاتمة الفاخرة في جوف شهر رمضان وألسنة المسلمين على تباعدهم شرقًا وغربًا تلهج بالثناء عليه والدعاء له!

إنَّ الصدق والإخلاص والشعور بالمسؤولية جسورٌ كريمةٌ إلى المقامات الفاضلة والخواتيم الفاخرة.

أما الشخصية الثانية فهي محمد الضيف أبو خالد.

هذا الرجل كان يسكن أحد أحياء المنطقة التي أسكنها (السطر الغربي)، وكنت أعرف بيته، وقد مررت من أمامه ما لا أحصي من المرات، ولا أدري شيئًا عن البيوت والأماكن الأخرى التي كان يتردد فيها.

وحين أُعلِنَ عن استشهاده وجاءت الأخبار بالكشف عن صورته كنت حريصًا على رؤية الصورة لأرى هل التقيت به من قبل أو لا؟، فلما رأيت الصورة هالني أني لم أره قط مع أن بيتي لا يبتعد عن بيته إلا بضع دقائق وقد كنت أُقدِّر أني ربما رأيته ولا أعرف شخصه.

إنَّ أمر اختفائه الطويل هزني، وكثيرًا ما حدثت نفسي أن أبا خالد استطاع أن يُنتِج لنفسه حياة خاصةً على مدار بضعٍ وعشرين سنة من المطاردة والاختفاء، ويتعايش معها على أتم ما يكون التعايش.

وحين بلغني خبر استشهاده شهر 7/2024 قلت لمن أخبرني: ليس العجب من تمكن العدو من الوصول إليه؛ ولكن العجب من بقائه طيلة عصر الانتفاضة حتى بلغ بالمقاومة هذا المستوى العظيم مع شدة الملاحقة وكثرة التتبع وتعدد محاولات الاغتيال!

إن أبا خالد لم يكن يكثر الكلام، ولكنه إذا تكلم خرجت كلماته هادئةً في مبناها عظيمةً في معناها، تشق طريقها إلى الواقع لتتحول إلى أخبار عاجلةً تصبح ملء السمع والبصر.

وإذا كان أعظم ما يُنبِي بفضلِ الرجل أفعاله الكبيرة تلك التي ملأت العالم والتي كَسَت هذا البلد برداءٍ من الهيبة والعظمة فإنَّ أحلى وأبهج موازين الفضل عندي هي تلك الحناجر المقدسية التي كانت تصدح باسمه شخصيًّا في ساحات المسجد الأقصى المبارك تنادي عليه وتلهج بفضله!
كنت إذا سمعتها لا أكاد أتمالك نفسي، وأقول: أي صدقٍ بلغه هذا الرجل ليصبح حديث المرابطين في أقدس بقعةِ رباطٍ على وجه الأرض!
وكانت نفسي كثيرًا ما تسبح بنفس الاتجاه وأقول: حين يسمع الحناجرَ المقدسيَّةَ المرابطة هناك تنادي عليه شخصيًّا فما مشاعره وهو يرى فضل الله عليه!

إن أنموذج محمد الضيف يعد كالقنبلة في زمن الانكشاف الذي يبوح الناس فيه بكل شيء، بحيث لا يكاد يرتاح للواحد بال من كثيرٍ من أبناء هذا الزمن إلا إذا تحدث عن أخص أموره وذَكَرَ أخصَّ أفعاله على وسائل التواصل، إلى الحد الذي يُستحيى منه والله.

إن أبا خالد أراد لنفسه أن يكون مغمورًا لكن الله جعله مشهورًا تصدح باسمه الحناجر على المنابر والمنائر في مختلف الأقطار والأمصار.

بعد معركة العصف المأكول سنة 2014 زرت أحد الإخوة بمدينة غزة، فقال لي أحد الحاضرين: إن محمد الضيف كان مستأجرًا لشقةٍ في هذا البيت، فنظرت إلى الأخ وإذ به يقول -وهو من المجاهدين-: لم أكن أعلم أن المرأة المستأجِرة للبيت هي زوجة أبي خالد، ولم أره يومًا دخل البيت، لقد كان أبي هو الوحيد الذي يمتلك هذا السر.

وعقب هذه الموعظة التي لا تكاد بلاغتها تقف عند حد أيعجز أصحاب الطموح أن ينتجوا لأنفسهم نظامًا ينصرون فيه الله ورسوله يُحصِّلون فيه ما يُبلِّغهم الغاية من العلوم والمعارف والأخلاق والمهارات أم أن مجرد ترك الهاتف والنت يعد عزيمةً لا يطيقها أكثر الرجال، والتي باتت مقتلةَ كثيرٍ من أصحاب الطموح!
وأما الشخصية الثالثة فهي شخصية يحيى السنوار أبي إبراهيم عليه رحمة الله.

وأبو إبراهيم رغم أنه يسكن أحد أحياء المنطقة التي أسكن أيضًا، ورغم أني مررت من أمام بيته عشرات أو مئات المرات إلا أني لم أكن أراه إلا في القليل النادر، ولم أجالسه إلا مرة واحدة، ولهذه الجلسة قصةٌ لطيفةٌ يمكن أن أُعرِّج عليها بعد قليلٍ إن شاء الله، والمرات القليلة التي رأيته كان بعضها في خطب الجمعة حين يُقدِّر الله له الصلاة في المسجد الذي أخطب فيه.

والمعنى الذي أود الإشارة إليه والذي طرقته عند الكلام عن الشيخ أبي إسحاق الحويني هو أن أبا إبراهيم كانت له حسناتٌ كثيرة وكانت عليه مؤاخذات، بل لا يبعد أن يُقال: إنه كان شخصيةً مختلفًا عليها إلى حدٍّ ما، إلا أنه حين اندلعت معركة طوفان الأقصى والتي ارتبطت باسمه وكان هو صاحب القرار فيها ثم جاءت الأخبار باستشهاده ورأيتُ مشهد الخاتمة الأسطوري الذي أكرمه الله به علمت حينها بمركزية الصدق والإخلاص في أهلية الفوز بالمكارم الإلهية العظيمة.

لقد قلت حينها: لقد صدق الله فصدقه الله، وكانت هذه الكلمة تمتد في أعماق نفسي بما لا أحسن التعبير عنه الآن، وكأني لأول مرة أنطق بها وأقصد كلَّ حرفٍ فيها.
إن خاتمة الرجل تشي بصدقه العجيب المهيب.
لقد كان لي عناية بتتبع الخواتيم الصالحة حين كتبت كتابي (من عاش على شيءٍ مات عليه) وكان ثاني الكتب التي يسَّر الله لي كتابتها، وكانت أشد الخواتيم تأثيرًا فيَّ خاتمة الشيخ عبد الله عزام رحمه الله؛ إذ إنه قضى نحبه في يومٍ جمعة قد قام ليلتها وأصلح بين طائفتين من المسلمين فيها، ثم أصبح بعد أن أخذ بحظِّه من التهجد يتلو سورة الكهف مع بعض أهله ويشرح لهم ما تيسر من المعاني، ثم انطلق إلى خطبة الجمعة ليتم اغتياله في الطريق بتفجير سيارته ليرتفع عدة أمتار وينزل ساجدًا حتى إن بعض الناس ممن شاهدوا الحدث ظنوه يسجد شكرًا لله على السلامة والنجاة!

لقد عاش عالمًا داعيًا عابدًا مصلحًا مجاهدًا فجمع الله كل متعلقات هذه المسارات في مشهد الخاتمة الذي صار عليه.

إلا أن خاتمةَ أبي إبراهيم التي انتشرت على يد جنود العدو الصهيوني موثقةً بكاميراتهم ما أحسب أن أحدًا يراها إلا ويرى أنها درة الخواتيم الفاخرة، ثم بدأت الأخبار تأتي بما يزيد مشهد الخاتمة جمالًا؛ كاشتباكه مع العدو وإصراره على البقاء في منطقة القتال وعدم تلقيه الطعام من ثلاثة أيام، مع الصور التي تُبرز أوراق الأدعية والأذكار التي كانت معه، وما ورد من أخبار تعبده وتهجده مما يضيق المقام عن بيانه.

إن هذه الترجمة تشي بأنَّ الصدق والبعد عن الأضواء يأخذان بالعبد إلى المقامات الفاضلة والخواتيم الفاخرة.

وأما قصة الجلسة الوحيدة فقد ذكرته بنقدٍ منهجي في حضرة بعض القيادات المجاهدة في مجلسٍ عابر، ولم يخطر ببالي أنهم ينقلون إليه بعض كلامي، فقال لهم: يمكن أن أستمع إليه مباشرة وأُنصِتُ للنصيحة.

وبالفعل تم ترتيب لقاء لهذا الغرض وزرته وقلت له: سأحدثك بما يدور على الألسنة من دون أي زخرفةٍ في اللفظ تجاوزًا للبطانة التي يمكن أن تحجب عنك أشياء فتكون حاضرًا غائبًا، وقد تكلمت وأطلت الكلام وقد كنت في غاية الوضوح والصراحة والجرأة وكان ينصت أحسن إنصات، ثم جعل لي مِفتاحًا للوصول إليه في كل وقت، إلا أني لم أستخدم المفتاح إلا لإتمام مادة النصح، وما هي إلا مدة حتى اندلعت المعركة.

وعقب هذه الأخبار الثلاثة فإن كلمة السر هي ذلك الصدق العامر في القلوب، والذي يُغطِّي العيب ويردم كثيرًا من الخلل، وليس هذا بإغلاقٍ لباب النقد المنهجي سواء في حق العلماء كأبي إسحاق أو المجاهدين كأبي إبراهيم؛ فهذا بابٌ لا يُغلق مع الاحتفاظ بمقادير الرجال، وصدق الشيخ سليمان بن ناصر العبودي إذ قال: لا يجوز أن تضيع الحقائق العلمية باسم الحفاظ على مكانة الرجال؛ فالأمانة التي ترثها الأجيال القادمة منا هي الحقائق العلمية وليست جثامين حملتها، إلا أن الصدق يفعل فعله ويعمل عمله.

أسأل الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص وحسن النية وجمال السيرة ونقاء السريرة.
والحمد لله رب العالمين.

ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان 1446 هـ الموافق السابع عشر من مارس 2025م.

إقرأ أيضا:نعي الحويني علّامة مصر ومحدّث العصر!

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى