مقالات مختارة

رؤيةٌ كلّيّة مقارنةٌ لمنهج البحث الفقهيِّ

صلاح عباس – الملتقى الفقهي.

هذه رؤية كلّيّة لمنهج البحث الفقهيّ، مقارنةً بمنهج البحث العلميّ التجريبيّ، أُنوّهُ فيها -بعد هذه المقدمة- بمبدأينِ وخطوتين، يمثّل كلٌّ منهما أساساً مهمّاً من أسس منهج البحث، سواءٌ كان فقهيّاً أو تجريبيّاً.

منهج البحث، سواءٌ كان شرعيّاً أو غيره -وإن تعدّدت أسماؤه- هو في الحقيقة منهجٌ واحدٌ، يدور حول محوري الاستقراء والاستنتاج.

أمّا التّعدُّدُ الذي نراه في أسماء مناهج البحث، من وصفيٍّ وتحليليٍّ وتجريبيٍّ، إلخ فإنّه مظهرٌ لتفاعل هذا المنهج الواحد، مع مختلِفِ مجالاتِ البحث، وزوايا النّظر إليها.

وبناءً عليه فإنّ منهج البحث الفقهيِّ، ومنهج البحث العلميّ التجريبيّ، ليس بينهما من خلاف في الحقيقةِ والجوهر، لكن في الاسم والمظهر، بيد أنَّ منهج البحث الفقهيِّ، يختصُّ بدراسة ظواهرَ نصوصيّة (لُغويّة)، بينما يختصُّ منهج البحث التجريبيّ، بدراسة الظَّواهر الواقعيّة المحسوسة، فمن أراد أن يبحثَ عن (حكم الشَّرع في السّواك بين يدي تكبيرة الإحرام) مثلاً، فإنّ مجال بحثه –وإن تعلّق بمسألةٍ واقعيّة- سيكون مقتصراً على النُّصوص الشَّرعيّة، وأقوال الفقهاء، بينما ينصبُّ البحث العلميُّ التجريبيّ، على الظواهر الواقعيّة (المحسوسة)، فمن أراد أن يبحث عن (أثر السّواك بعود الأراك في طهارة الفم)، فإنّ مجال بحثه –وإن انطلق من نصوصٍ شرعيّة وأقوالٍ فقهيّة- سيكون محصوراً في إجراءاتٍ واقعيّة تجريبيّة، تتعلّقُ بعود الأراك، ورصد أثره التَّطهيريّ للفم، بوسائل وأجهزة ومقاييسَ دقيقةٍ، صحيّة وعلميّة، نوعيّة وكميّة[1].

ومن ثمّ فإنّ منهج البحث الفقهيّ، هو في الحقيقة منهجٌ علميٌّ، لكنّه يختصُّ بمجال دراسة النصوص.

وهاهنا نواجه المبدأ الأساسيّ الأول، من مبادئ منهج البحث، سواءٌ كان فقهيّاً أو تجريبيّاً، وهو:

مبدأ الارتباط بين الباحث وحقل البحث المعيّن:

إنّ حقلَ البحث المعيَّن -سواءٌ كان البحثُ فقهيّاً أو تجريبيّاً- هو الإطارُ الّذي ينبغي أن يؤطّر وعي الباحث وفكره، ففي هذا الحقل المعيّن يشعر الباحث بوجود مشكلة البحث، وفيه تنبعث الدَّواعي إلى حلّ هذه المشكلة، وفيه يتمُّ إثباتُ صحة حلِّ هذه المشكلة، ففي أنموذج بحث (حكم السواك)، ينبغي للباحث أن يكون في حال فكرٍ دائمٍ متَّصل بموضوع هذا البحث، وإشكالاته، حتّى يتيسّر له اقتناصُ شوارده، وقيد أوابده، ووصلها بحبلٍ متين.

الخطوة المنهجيّة الأولى: تحديد مشكلة البحث:

الباحث الفقهيُّ أو العلميُّ، لدى وجوده في حقل البحث المعيّن، يشعُر بوجود مشكلةٍ تحتاج إلى حلٍّ، فالواجب عليه عندئذٍ أن يتثبّت من أنّ هذه المشكلة حقيقيّةٌ، ويُحدّد معالمها بوضوحٍ كامل.

وهذه الخطوة، يتعلّق بها في “منهج البحث الفقهيّ” مفهومان أساسيّان يُمهّد أوّلُهُما للثاني:

الأول: مفهوم التَّصوير، أي تصوير المسألة أو المسائل التي هي موضوعُ البحث، بتحليل مفرداتها أو عناصرها، والانتباه إلى القيود الواردة فيها، ومن ثمّ الرّبط بين هذه المفردات أو العناصر، بحيث تُعطي تصوّراً أوّليّاً واضحاً، عن الحقل الّذي سيجري فيه البحثُ.

الثّاني: مفهوم التّحرير، أي تحرير محلّ النّزاع في هذه المسألة التي تمّ تصويرُها، ببيان آراء الفقهاء وأنظارهم في الصُّورة الكلِّية للمسألة، وما إذا كان هناك اتّفاقٌ حولها، أو خلافٌ، يتمُّ تحديد نقطته الأساسيّة، والتّثبت ممّا إذا كان خلافاً حقيقياً أو لفظيّاً، كلُّ ذلك استناداً إلى النّصوص الشّرعية الواردة في المسألة محلّ النزاع.

ومن أجل تحقيق هذه الخطوة المنهجيّة الأولى، فيجب على الباحث الشّرعيّ أو التجريبيّ أن يقوم بعمليَّتين:

الأولى: عمليّة استقراء، تهدف إلى جمع  المادّة العلميّة، الكافية لتحقيق عمليّتي التصوير والتّحرير، وتُسمّى هذه العمليّة في كتب مناهج البحث العامّة بعمليّة الملاحظة المنظَّمة، التي تُعتبر وسيلةً من وسائل جمع المادّة العلميّة، تُغني عن التجربة في الحقول التي يتعذّر فيها التجربة.

وهذا الاستقراء في البحوث الفقهيّة، يتمّ بطريقةٍ منظمة من خلال جمع أقوال الفقهاء من الكتب المعتمدة في المذهب أو المذاهب المختلفة، ثمّ تصنيفها وترتيبها بصورةٍ موضوعيّة، وإرفاقها بالأدلة والنصوص الشرعيّة التي تشهد لصحّتها.

الثّانية: عمليّة استنباط، تهدف إلى إصدار حكمٍ يتعلّق بتحديد مشكلة البحث في هذه المرحلة، أو بالمصطلح الشرعيّ يتعلَّقُ بتصوير المسألة، وتحرير محلّ النزاع فيها، ومن البدهيّ أنّ مشكلة البحث قابلةٌ للتّجزئة والتّفريع، بحيث تتضمّنُ عدّة مشكلات، يتمّ حلُّها تقائيّاً عند حلّ المشكلة الكلّيّة، كما أنّ حلّ بعض هذه المشكلات الجزئية، يُيسّر أمرَ حلّ المشكلة الكليّة.

وفي هذه المرحلة، يتّسم منهج البحث الفقهيِّ، بالطابع الوصفيّ البسيط، الذي يكاد يخلو من التّحليل والمقارنة وإدراك العلاقات.

الخطوة المنهجيّة الثانية: البحث عن حلٍّ لمشكلة البحث:

في سياق سعيِ الباحث -عبر الخطوة المنهجيّة الأولى- إلى تحديد مشكلة البحث (تصويراً وتحريراً) تنقدح في ذهنه تلقائيّاً ، حلولٌ مختلفةٌ للمُشكلة الَّتي يقومُ عليها بحثُه، فلا ينبغي للباحث أن يتعجّل باختيار واحدٍ من هذه الحلول، سواءٌ كان حلاً كلّيّاً لمشكلة البحث، أو حلاً جزئيّاً لبعض فروعها، ولكن يقومُ بعمل استقراءٍ آخر، الاستقراء الأول كان قد قام به من أجل (التَّصوير والتَّحرير)، فكان استقراءً يتميَّز بالتَّعميم، أمّا هذا الاستقراء فإنّه مُخصّصٌ، يستقرئ فيه الباحثُ نصوصَ الشَّرع وأقوال الفقهاء، المتعلّقةِ خاصّة بمحلّ النزاع الذي تمَّ تحريره.

وينبغي التّنبيه إلى أنَّ الباحث، قد يتبيّنُ له بعدَ القيام بهذا الاستقراء الثّاني، أنّ محلّ النزاع لم يكن قد تحرّرَ بعدُ، وعندئذٍ يقوم بتحريره مجدّداً، باستصحاب البيانات التي تكشَّفَت له من هذا الاستقراء.

وعبرَ هذا الاستقراء المخصّص، ستسقط بعضُ الفرضيّات، ويتعمّق بعضها الآخر، ويقترب الباحث شيئاً فشيئاً من اكتشاف حلّ المشكلة الكلّيّة للبحث.

وفي هذه المرحلة، تلعب كلٌّ من منهجيّة السّبر والتّقسيم، وآليَّة تخريج المناط ثم تنقيحه وتحقيقه، تلعب دوراً كبيراً في إثبات الفروضِ أو إسقاطها[2].

وتتميّز هذه المرحلة، باستخدام المنهج الحواريِّ، الّذي يقوم على الدِّراسة المنظمة للعلاقة بين ثمرات الفكر، كما تتجلّى من خلال التَّفكُّر في النّصوص الشّرعيّة، وفي أقوال الفقهاء، وذلك من حيث المقارنةُ بينها، وإدراكُ التّأثير المتبادل لبعضها في بعضٍ، ومن حيث تطوُّرُها ودفعُ بعضِها ببعضٍ[3].

وفي هذه المرحلة، كما في المرحلة السابقة، يلعب الفرضُ أو الاستنباطُ دورَه الكبير، باعتباره الآليّة العقليّة الفعّالة، في تطوير البحث، وتقريبه من الوصول إلى حلّ مشكلته الكليّة، والفرض يُمكن تعريفُه بأنَّه: استنتاجٌ ذكيٌّ يصوغه الباحث، من خلال استغراقِه في معاناة مسائل بحثه والتّفاعلِ معها، وذلك ليكون مرشداً وقائداً له عبر دروب بحثه ومتاهاته، وهو يُشبه تماماً حالَ اللاعب في لُعبة “دروب المتاهة”، عندما يختار خياراً، تنفتحُ به أمامه الدّروبُ، فيتقدم نحو بوابة الخروج من المتاهة. والفرضُ بكلّ بساطةٍ (فكرةٌ يطرحها الباحث على بحثه، يُحاول من خلالها الرّبطَ بين الملاحظات والبيانات التي جمَعَها، أو يُفسّر ما غمض من هذه الملاحظات)[4]، وذلك كلّه استناداً إلى الاستقراء المتواصل، من خلال الارتباط الواعي الوثيق، بين الباحث والحقل الذي يُباشر فيه بحثه، فالعلاقة بين الاستقراء واستنتاج الفروض علاقة وثيقةٌ جدّاً، وهو مبدأٌ مهمٌّ يجب تقريره والانتباه إليه:

مبدأ الارتباط الآليّ الوثيق بين عمليّتي الاستقراء والاستنتاج:

وهذا المبدأ مرتبطٌ بالمبدأ الأول، “مبدأ الارتباط بين الباحث وحقل البحث المعيّن”، ذلك أنّ هاتين العمليّتين، تتمّان داخل هذا الحقل، بحيث يمكن تعريف البحث كلّه، بأنّه سلسلةٌ من عمليات الاستقراء والاستنباط، لا تتوقّفُ إلا عند استنباط الحلِّ الصحيح لمشكلة البحث، وأمّا قبل ذلك، فتكونُ العلاقة بينهما علاقة تفاعل وتأثير متبادل، فكلُّ استقراءٍ علميٍّ –بحسب ما بُذل فيه من جهدٍ في التصنيف والترتيب- من شأنه أن يؤدّي إلى استنباط، علماً بأنّ الاستنباط لا يعدو أن يكون ضرباً من الإلهام التّلقائيّ، ينبجسُ نوره عند قيام الباحث بعملية الاستقراء الواعي، لكن لا ينبغي للباحثِ أن يطمئنّ إلى شعوره بالإلهام، بل يجب عليه أن يُثبت (هذا الإلهام) واقعيّاً أو عمليّاً، عبر القيام باستقراءٍ مخصَّصٍ جديد، في النصوص الشرعية، وأقوال الفقهاء.

إذن كلُّ استقراءٍ يتبعُه –بفضل الله عزّ وجلّ- استنباطٌ، وكلُّ استنباط ينبغي أن يُعزّزه الباحثُ باستقراء. فالاستقراء عملٌ قاصد، والاستنباط ثمرةٌ مترتّبة عليه.

خاتمة البحث: الوصول إلى حلّ المشكلة:

يتمّ الوصول إلى حلّ مشكلة البحث، في سياق جدليَّة الاستقراء والاستنباط، المتوالية عبر مراحل البحث وعمليّاته المختلفة، إلى أن يُوفِّقِ اللهُ تعالى الباحثَ إلى حلّ المشكلة، في لحظةٍ ما، بدون سابق تدبير، اللهمّ إلا الاجتهادُ في الاستقراء قراءةً وتصنيفاً، وتفتيحُ مدارك الوعي لانقداح الذهن بالمعاني الاستنباطية، ثمّ في تلك اللحظة يأتي الاستنباطُ الأخير في مسيرة البحث، الذي تُحلُّ به مشكلته الكليّة، وكلّ إشكالاته الجزئية.

فلا يتميّز هذا الاستنباط (الأخير)، أو هذه الفرضيّة (النهائيّة)، عمّا سبقها من استنباطات وفروض، إلا بأنّه تزول عنده الإشكالاتُ، فمعيار صحته: أن تزولَ به جميع الإشكالات والمشكلات المتعلّقة بالبحث، وأن يكون قادراً على تقديم رؤيةٍ كلّيّةٍ تستوعبُ، كلّ معاني البحث ودلالاته، ففي مثال البحث عن (حكم السواك بين يدي تكبيرة الإحرام)، ينبغي أن يكون جوابُ هذه المشكلة، منسجماً مع كلّ الدّلالات الثابتة، التي وردت في النُّصوص الشرعيّة، فإذا توصّل الباحث مثلاً إلى أنّه لا يجوز السواك بين يدي تكبيرة الإحرام، فينبغي عليه –مثلاً- أن يأتي برؤيةٍ واضحةٍ منسجمة، لا تتعارضُ مع قوله صلى الله عليه وسلم، الثَّابت في الصَّحيحين: ((لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)).

————————————-

 المراجع

[1] وممّا يُقال على سبيل الاستطراد: إنّ الفقهاء المسلمين لم يحصروا أنفسهم في مجال النصوص اللّغويّة والشرعيّة، بل كذلك استأنسوا بثمرات البحث العلميّ التجريبيّ، فتجدهم في مبحث السواك مثلاً يتحدّثون عن الكيفيّة العمليّة التي يتمّ بها تطهير الفم.

[2] ستُخصَّص نوافذ مقبلة بإذن الله للتعريف بهما.

[3] يُنظر: المنهج الحواريّ أو منهج دراسة العلاقات، في حلقة سابقة من هذه النافذة.

[4] مدخل إلى مناهج البحث العلمي، د. بثينة محمود محمد، ص108.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى