د. علي القره داغي يجيب عن حكم الاحتفال بالأيام (أو الأعياد) الوطنية حسب قواعد فقه الميزان وقواعد الأصول ومبادئ الشريعة
فقد سألني جمع كثير من طلبة العلم وغيرهم حول حكم الاحتفال بالأيام (أو الأعياد) الوطنية هل هو حلال أو حرام و بدعة؟ وطلبوا مني بإلحاح بيان الحكم الشرعي إظهاراً للحق والحقيقة؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:
فبما أن المسألة قد صدرت بعدم جوازها بعض الفتاوى من علماء كبار أمثال الشيخ ابن باز (رحمهم الله) وفتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، رقم الفتوى (9403) فإنني ألجأ إلى القواعد الكليّة والمبادئ العامة في هذا الصدد دون تحيز مسبق والله المستعان،
أولاً: التعريف بالعيد لغة، وشرعاً، ومدى شمول العيد الشرعي لليوم الوطني؟
العيد في اللّغة من: عاد يعود، والعيد ما يعود من همٍّ، أو مرضٍ، أو شوقٍ، أو نحوه، وكل يوم يحتفل فيه بذكرى كريمة أو حبيبة، وجمعه أعياده، قال الشاعر: “والقلب يعتاد من حبها عيد ” قال ابن الأعرابي: ” سمي العيد عيداً، لأنه يعود كل سنة لفرح مجدد”[1].
والصحيح أنه ليس خاصاً بالسنة، بل قد يكون في الشهر، أو الأسبوع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ” العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائداً إما بعود السنة أو بعود الأسبوع، أو الشهر، أو نحو ذلك، فالعيد يجمع أموراً منها يوم عائد كيوم الفطر، و يوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات “[2]
والخلاصة أن العيد في اللغة يشمل مجموعة من المناسبات سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة، فهو أعم.
وأما العيد في الاصطلاح الشرعي فهو الزمن الذي خصص ببعض المناسك والعبادات، وجعل من شعائر الإسلام وطلب فيه إظهار الفرح والسرور، فالعناصر المكونة للعيد الشرعي هي: الاختصاص ببعض العبادات والمناسك مثل عيد الأضحى الذي يأتي في وسط مناسك الحج، وحرمة الصيام فيه وفي أيام التشريق (كمبدأ عام – هو مثل عيد الفطر الذي جاء بعد أداء صيام شهر.
ثانياً: تحرير محل النزاع وفق فقه الميزان:
إن فتواي مُنْصَبّة على الاحتفالات المشروعة الخالية من المحرمات التي تقام بمناسبة الأيام الوطنية التي قد تسمى: الأعياد الوطنية، ولا مشاحة في إطلاق الأعياد عليها ما دامت مقيدة بالوطنية وبناء على ذلك فإني لا أجيز إحداث أي عيد ديني سوى الأعياد الشرعية (الأضحى، والفطر، والجمعة) فمن المعلوم أن التشريع حق لله تعالى وفق فقه الميزان.
وهذا ما صرح به المحققون، حيث قال ابن تيمية: ” العيد المشروع يجمع عبادة، وهو ما فيه من صلاة، أو ذكر، أو صدقة أو نسك، فيجمع عادة، وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس، وما يتبع ذلك من ترك الأعمال”[3] مثل حرمة الصيام في العيد.
وبهذا التعريف الدقيق يخرج عن العيد الشرعي الخاص: ما يسمى باليوم الوطني أو العيد الوطني الذي لا يشرع لأجله أي عبادة.
فالعيد الشرعي هو المتمثل بعيد الأضحى أو عيد الفطر حيث جاء كل واحد منهما بعد أداء شعيرة عظيمة وركن من أركان الإسلام وهما الصيام والحج، وأن فيهما صلاة العيد، كما أن الصيام فيهما محرم[4].
وأما إظهار الفرح والسرور فهو ليس ركناً في العيد الشرعي، وإنما على سبيل الاستحباب، كما أن ذلك مشروع مطلق لأدلة كثيرة، ومنها قوله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) يونس 58، حيث يدل على استحباب الفرح الدائم بنعم الله تعالى وفضله، وهناك أحاديث صحيحة باستحباب الفرح بالإفطار بعد الصيام[5]، كما أن من سعادة المرأ وجود المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيئ[6].
ولا يقصد أحد من المسلمين أن يجعل اليوم الوطني عيداً دينياً، وإنما هو ذكرى، وفرحة بمناسبة مفيدة عزيزة على الشعب.
فبناءً على ذلك فإن ميزان العيد الشرعي هو التوقف عند حدود الشرع فلا يجوز زيادة أي عيد ديني، ولا تغييره بالعقل أو العرف.
أما ميزان الأيام الوطنية فيقوم على التوسع، لأنها من العادات التي الأصل فيها الإباحة إلا إذا وجد دليل صحيح وصريح يدل على الحرمة.
ثالثاً: أَنّ لكل نوع من أنواع الأحكام والأدلة ميزاناً خاصاً به، فميزان الشعائر التعبدية، والعبادات المحضة التوقف عند مورد النص فقط دون زيادة أو تغيير، وإلا سيسمى بدعة، ويكون حكمها بمقدار المخالفة.
واما العادات (أي غير العبادات المحضة) فميزانها: أن الأصل فيه الإباحة إلا إذا دل دليل صحيح صريح على حرمتها[7].
ووفقاً لهذين الميزانين فإن الأيام الوطنية هي من العادات التي لم يرد في حرمتها نص صحيح وصريح، فتبقى على الإباحة إلا إذا شابتها محرمات، وحينئذ تكون محرمة لأجل ذلك المحرم.
رابعاً: الرد على بعض الشبهات في هذا المجال:
قد أثيرت حول الأيام الوطنية بعض الشبهات، منها أن هذا العيد تشبه بالكفار، فالجواب هو أن التشبه بالكفار فالمحرم فيه هو التشبه في شعائر دينهم، أو في عاداتهم المرتبطة بدينهم، أو في المحرمات، أما التشبه في العادات المباحة فليس بمحرم إلا إذا كان القصد منه التزلف إليهم والنفاق لهم، وهذا ما قاله المحققون قديماً وحديثاً.
فالاحتفالات الوطنية هي ذكريات لأيام الاستقلال أو التأسيس وهي من نعم الله تعالى التي توجب الشكر، وتستدعي الفرح والانبهاج قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) يونس 58، وليست من باب العبادات والشعائر الدينية حتى تدخل في البدعة المحرمة، ولذلك ليست فتوانا حول احتفال ديني لم يكن مقرراً في عصر الرسالة، وقصد منه إحداث عبادات جديدة، أو تغييرها، أو ربطها بزمن فهذا محرم داخل في البدع المحرمة.
وقد استدل هؤلاء المانعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من تشبه بقوم فهو منهم” رواه أبو داود (4031) وسكت عنه، واحمد (5114).
والجواب عنه من عدة وجوه:
1- أن الحديث مختلف فيه من حيث التصحيح، أو التضعيف، فقد ضعفه جماعة من المحدثين فقال الزيلعي في نصب الراية (4/247): “فيه ابن ثوبان، وهو ضعيف” وقال الزركشي في اللألئ المنثورة (101) “إسناده فيه ضعيف” وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (10/274): ” فيه علي بن غراب، وقد وثقه غير واحد، وضعفه بعضهم، وبقية رجاله ثقات”، ولكن الأكثرية حسنوه مثل الحافظ ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح (4/205) وأبو داود – كما سبق – والسيوطي في الجامع الصغير (8574) وغيرهم، ومن المعاصرين، وقال شعيب الأرناؤط في تخريج سنن أبي داود (4031): “إسناده ضعيف، على نكارة في بعض ألفاظه”، وقال الألباني في أصل صفة الصلاة (1/105) ” إسناده حسن” ولكنه قال في صحيح أبي داود (4021) “حسن صحيح”، ثم قال في صحيح الترغيب (2089): “حسن لغيره”
وقصدي من هذا العرض أن الحديث ليست صحته محل اتفاق.
2 – وأما معنى الحديث فيجب أن يكون وفق ميزان بقية النصوص الشرعية، ولذلك قال المحققون إن المراد بالتشبيه هنا التشبيه المطلق الشامل للخير والشر، فمن تشبه بالصالحين الصادقين في العقيدة الحقة، والحب لله تعالى ولرسوله، والعمل الكثير الصالح فهو منهم، وكذلك من تَشبّه بالكافرين في كفرهم وعادات دينهم، والفجور والفواحش والفسوق والعصيان، وفي خصائص دينهم وشعائرهم الدينية …فهو منهم.
والخلاصة أن التشبه بالكفار نوعان:
أ- محرم وهو ما ذكرناه آنفاً، وقد يصل إلى الكفر إذا تشبه بكفرهم علماً وعمداً.
ب- مباح وهو التشبه فيما عدا ذلك من الأمور العادية، مثل الألبة غير الدينية، وذلك بشرط الالتزام بالضوابط الشرعية الواردة في النصوص الثابتة.
وقد اختار ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/473-475) في مشابهة الكفار الفرق بين ما كان أصله مأخوذاً عنهم، وما ليس في الأصل مأخوذاً عنهم، ولكنهم يفعلونه كذلك، ثم اختار في النوع الثاني: أنه “ليس فيه محذور المشابهة” ثم أكد على أن تحريم مشابهة معينة يحتاج إلى دليل شرعي، كما فرق بين العبادات المحضة، والعادات المحضة.
وبناء على ذلك أجاز الإمام مالك لبْس البُرنس، كما في فتح الباري (10/272-307)، – وهو رداء ذو كمين يتصل به غطاء الرأس – مع أنه كان من لباس الرهبان، لكنه لم يكن لباساً يمثل طقوساً دينية، وكذلك أجاز ابن المواق المالكي لبس الرندين – وهو ثوب روماني -.
وقصدي مما سبق أن مسالة التشبه بالكفار لا تنطبق على موضوع الاحتفال بالأيام الوطنية، كما أن هذه الأيام ليست أعياداً دينية، وإنما مظاهر احتفاليةتسودها البهجة والسرور والحبور، ولذلك فهي مشروعةلا مانع منها شرعاً إذا لم تصحبها المحرمات الشرعية، والإسراف والتبذير، والمبالغة في الإنفاق على المظاهر، ولذلك يكون من الأفضل أداء الشكر لله تعالى في مثل هذه المناسبات، وإدخال السرور في قلوب الفقراء، وفي ذلك حماية للبلاد والعباد.
” هذا والله أعلم “
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د علي محيي الدين القره داغي
الدوحة، غرة جمادى الأولى 1444ه
[1] لسان العرب، القاموس المحيط، والمعجم الوسيط مادة “عود”.
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/375)
[3] اقتضاء الصراط المستقيم (1/375)
[4] المصادر الفقهية في كتابي العيدين
[5] الحديث رواه ( البخاري 1904، ومسلم 1101)
[6] الحديث رواه ابن حبان في صحيحه (4032) وأحمد باسناد صحيح (1445)
[7] يراجع للمزيد حول هذه الموازين كتابنا: فقه الميزان.