مقالاتمقالات مختارة

د. أحمد الريسوني يكتب: أموال الدولة وحق التصرف فيها

د. أحمد الريسوني يكتب: أموال الدولة وحق التصرف فيها

ما يسمى اليوم بأموال الدولة، أو المال العام، أو الأموال العمومية، هي أموال تعود ملكيتها الحقيقية، لعموم أفراد المجتمع. لكن بما أن أفراد المجتمع لا يمكنهم جميعا تدبيرها والتصرف فيها، فقد تعارفت الشرائع والقوانين على أن تدبيرها والتصرف فيها يدخلان في صلاحيات ولاة الأمور، باعتبارهم نوابا عن الأمة. قال العلامة علاء الدين الكاساني: ““وأما الإمام فهو نائب عن جماعة المسلمين” – (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 2/491)

      وتصرف هؤلاء النواب – وكذلك نوابهم – في أي جزء من المال العام، لا بد أن يقوم على أساسين:

      الأساس الأول: أن يكون بما هو الأنفع والأصلح للمجتمع ولعموم الناس، طبقا لقاعدة: ” تَصَرُّفُ الإمامِ على الرعية مَنوطٌ بالمصلحة”. فمصلحة الجماعة، ومصلحة أكبر عدد ممكن من أفرادها، هو المعيار المحدد للتصرف في المال العام: ما يصح منه وما لا يصح، وما يجوز وما لا يجوز، ومن يستحق ومن لا يستحق، وما هو الأولى، وما هو خلاف الأولى…

      الأساس الثاني: أن يُنفَق كلُّ مال فيما أخذ لأجله وفيما رُصد له… فمالُ الزكاة للزكاة، ومال الفقراء للفقراء، ومال الأيتام للأيتام، ومال الأوقاف لما وقف له، ومال المرافق والمصالح العامة فهو لها… وهكذا. فإذا لم يكن للمال مصرف خاص محدد عدنا إلى الأساس الأول.

      والعلماء يُقرِّبون المسألة من خلال تشبيهها بالتصرف في مال اليتيم، مع العلم أن الشأن في الأموال العامة أكبر وأخطر. وقد خاطب الله تعالى القائمين على أموال اليتامى بقوله:

– {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء/34]

– وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء/10]

قال الشافعي رحمه الله: “منزلة الإمام من الرعية، منزلة الولي من اليتيم”. (نقله السيوطي في الأشباه233، والزركشي في المنثور1/309). يعني أن صاحب الولاية العامة عليه أن يتصرف في مصالح الرعية وأموالها، كما يتصرف ولي اليتيم في أموال يتيمه، أي: بكامل الأمانة والرعاية والاحتياط، وأن يحفظ عليه القِرش والفِلس والـحَبة. قال إمام الحرمين: “على الوصي مراعاة النظر والغبطة والمبالغة في الاحتياط، حتى لا يبيع سلعة له بعشرة، وثَـمَّ من يطلبها بعشرة وحبة” – (نهاية المطلب في دراية المذهب 5/460)

وبصفة عامة، نهى الله تعالى، عن أي استعمال للمال أو أي تصرف فيه بغير استحقاق مشروع ثابت، فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. قال الشوكاني في تفسير الآية: “هذا يعم جميع الأمة، وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ماورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحل لا بالإثم” – (فتح القدير1/248)

      وفي صحيح البخاري عن خولة الأنصارية – رضى الله عنها – قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:{إن رجالا يتخَوَّضون فى مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة}

قال ابن بَطَّال في شرح هذا الحديث: “وفيه ردع للولاة والأمراء أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله”

فمَنْ ولي شيئا من أموال الأمة، أو أموال غيره بصفة عامة، فلا يصح له أن يتصرف فيه تصرف المالك في مال نفسه. فليس لخليفة أو أمير أو وزير، صلاحيةُ التصرف الحر في المال العام، ومنحه وتوجيهه حيث بدا له. بل ليس له أن يصرف منه حتى في حاجته هو، بدعوى أنه كذا وكذا…وقد نقل الشاطبي عن ابن بشكوال، أن الخليفة الأموي بالأندلس “الحَكَم المستنصر بالله”، استفتى مجموعة من الفقهاء حين أفطر عامدا في رمضان، “فأفتوه بالإطعام، وإسحاقُ بن إبرهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين: ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له: لا أقول بقولهم، وأقول بالصيام (أي صيام شهرين متتابعين). فقيل له: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: تحفظون مذهب مالك، إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين؛ إنما أمر بالإطعام لمن له مال،وأمير المؤمنين لا مال له، إنما هو مال بيت المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنينوشكر له عليه. قال الشاطبي: وهذا صحيح”– (الاعتصام1/373)

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى