مقالاتمقالات مختارة

دُرر أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة (2-2)

دُرر أمتنا المفقودة وضالتها المنشودة (2-2)

بقلم محمد عبد الرحمن صادق

تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:

• نبذة مختصرة عن أهمية الإبداع وحسن توظيف الطاقات واستغلال الفرص.
• مفهوم الإبداع ونماذج عملية له.
• الضوابط التي يجب مراعاتها أثناء نظرتنا للإبداع وتعاملنا مع المبدعين.

وفي هذا الجزء سنكمل حديثنا بفضل الله تعالى عن بقية عناصر الموضوع، وهي:

ثانياً/ التوظيف الأمثل للطاقات

إن من عوامل نجاح المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام هو حسن توظيف الطاقات وحسن استغلالها الاستغلال الأمثل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب؛ فبلال -صاحب الصوت الندي- يُؤذن، وخالد -صاحب العزم الفتي- يقود الجيوش، وحسان -صاحب الإبداع اللغوي- ينظم من الشعر ما يهجو به المشركين ويذكرهم بمثالبهم ويلحق بهم كل نقيصة ويقول: “والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بلِسانِي فَرْيَ الأدِيمِ”، وحذيفة بن اليمان -صاحب سر النبي ﷺ- وغيرهم الكثير والكثير رضي الله عنهم أجمعين.

قصة ذي القرنين نموذج فريد من نماذج التوظيف الأمثل للطاقات

من الخطأ أن نعتقد أن توفر القوة المادية، والاقتصاد القوي، والأيدي العاملة فقط هي أسباب النجاح، دون أن توجد إدارة ناجحة تحسن استغلال كل ذلك؛ لأنه إذا غابت الكفاءات ضاعت الجهود والإمكانات .

إن في قصة ذي القرنين نموذجاً فريداً من نماذج التوظيف الأمثل للطاقات.

ففي القصة نجد أنَّ القوم كانوا يمتلكون المال، والدليل على ذلك قولهم: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} [الكهف:94]، وكانوا يمتلكون اليد العاملة، لذلك أمرهم ذو القرنين بقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف:95] وكانوا يمتلكون المواد الخام، لذلك قال لهم: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} ثم قال: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف:96] وهو النحاس المذاب.

إن ما كان ينقص القوم هو حُسن إدارة كل هذه الموارد، وحسن توظيف الكفاءات لديهم.

وكانوا يفتقرون إلى العلم الذي يُمكنهم من التخطيط وحُسن استغلال الموارد المتاحة.

وكانوا يفتقرون إلى وضوح الغاية والأهداف.

إن من يتدبر قصة ذي القرنين يجد أن دوره اقتصر على التخطيط وحسن توظيف الطاقات والإمكانات، وهما من أهم عوامل الوصول إلى أفضل النتائج، فكان من بين كلامه “فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ – آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ – انفُخُوا – آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً.”
ومن يتدبر الآيات التي بين أيدينا يجد أن ذي القرنين كان وثيق الصلة بربه يُرجع الفضل له – سبحانه وتعالى – ويربط القوم بخالقهم وليس بشخصه هو، لذلك قال: {قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} [الكهف: 98]

إننا يجب أن نأخذ كل ما سبق بمحمل الجد وعين الاعتبار، ونكون على يقين أن الإنسان الذي يفتقر إلى توفيق الله تعالى تراه بين الجُهَّال أجهلهم، وبين الأغبياء أغباهم، وبين الفاسدين أفسدهم.  

ضوابط يجب مراعاتها أثناء توظيف الطاقات

1. من الواجب علينا ألا نترك الغافل لغفلته، ولا أن نترك الكسول لكسله، ولا أن نترك النائم حتى يغط في نومه فيكون هو والميت سواء. إن القائم على أي عمل يجب أن يعرف كيف يُحفز الهِمَم، ويُوقظ الضمائر، ويُنشِّط الكسلان، ويأخذ بيد الوسنان.

2. إن التوظيف الأمثل للطاقات يُحتم ألا يكون هناك عاطل لا عمل له، بل يُحتم أن نبحث في كل فرد عما يمكن الاستفادة منه ، ولنعلم أن الله تعالى حين حرَّم الميتة أباح منها جلدها وعظمها، ولنعلم أن القوالب الصحيحة وحدها لا تقيم بنياناً، وأن البنَّاء الماهر هو الذي لا يترك جزءاً صغيراً إلا ووجد له مكاناً مناسباً في البنيان، ومن هنا فلا عذر لقاعد، ولا مَخرج لكسول، ولا حُجَّة لمتخاذل، ولا رخصة لمن يُبدد طاقات من حوله.

3. على الفرد أن يُفصح عن جوانب التميز بداخله فذلك يُقصِّر المسافات ويحافظ على الطاقات ويُبصِّر القيادات، ولنا الأسوة الحسنة في نبي الله يوسف – عليه السلام – حين قال: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].

ثالثاً/ اغتنام الفرص

إن الفرص منها ما هي مُهيأة ومُتاحة وما على الفرد إلا أن يستغلها ويوظفها توظيفاً مثالياً لتحقيق هدف نبيل، مثل اللقاءات الأسرية والمناسبات العائلية والأنشطة الحياتية… إلخ، وهذا يُسمى اغتنام الفرص، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -ﷺ- قال: “رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ” (صحيح مسلم).

ومن نماذج استغلال المواقف الحياتية وتوظيفها للنصح والإرشاد، ما ورد في الحديث التالي:

عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بالسُّوقِ، دَاخِلاً مِن بَعْضِ العَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فأخَذَ بأُذُنِهِ، ثُمَّ قالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنَّ هذا له بدِرْهَمٍ؟ فَقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بشيءٍ، وَما نَصْنَعُ بهِ؟ قالَ: أَتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟ قالوا: وَاللَّهِ لو كانَ حَيّاً، كانَ عَيْباً فِيهِ، لأنَّهُ أَسَكُّ، فَكيفَ وَهو مَيِّتٌ؟ فَقالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ علَى اللهِ، مِن هذا علَيْكُم…(صحيح مسلم).

من المعروف أن الفرصة لا تولد إلا مرة واحدة، والحظ لا يبتسم إلا مرة واحدة. إن هذا معناه أن الإنسان لا بد وأن يكون متحفزاً يقظاً لاغتنام ما يسنح له من فرص، دينية كانت أو دنيوية، بما لا يهضم حقاً، ولا يُعطل شرعاً، ولا يُفوِّت غيرها من الفرص.

إن الإنسان لا بد وأن يكون متحفزاً يقظاً لاغتنام ما يسنح له من فرص، دينية كانت أو دنيوية، بما لا يهضم حقاً، ولا يُعطل شرعاً، ولا يُفوِّت غيرها من الفرص

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: “يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ ألْفاً، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إضاءَةَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ وقالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَقامَ عُكّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ الأسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عليه، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ منهمْ، ثُمَّ قامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، فقالَ: سَبَقَكَ بها عُكّاشَةُ” (صحيح البخاري).

النوع الثاني من الفرص هو ما يتطلب أن يصنعها الفرد بنفسه بتحديد أهدافه وترتيب أولوياته وحسن استغلال ظروفه وإمكاناته.

عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: “اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ” (صحيح الترغيب).

ضوابط يجب مراعاتها أثناء التعامل مع الفرص

1. إن من ينتظر الفرصة أن تسقط عليه من السماء أو تأتيه على طبق من ذهب وهو نائم على فراش وثير، لن تأتيه أبداً.

2. إن الفرص تخرج من رحم الشدائد ومن عناء المِحَن، وتأتي لمن ملكت وجدانهم وشغلت عقولهم وقدموا صَدَاقها فكراً وعملاً وبذلاً وتضحية .

3. إن الفرص يُمهد بعضها لبعض، ويُوصل بعضها إلى بعض، فالطموح يقتنص ما يتأتى له من فرص، أما الحالم هو من ينتظر معجزة ترفعه إلى قمة المجد مرة واحدة، وهذا لن يحدث أبداً.

4. إن الفرصة لا بد وأن تكون مشروعة وأن توجه لغاية مشروعة، فلا تملق ولا تسلق ولا جَور، فالغاية المشروعة لا تحققها إلا وسيلة مشروعة .

وأخيراً أقول

إن النمو الشخصي والنضج الذهني لا يكتملان إلا عندما يكون الشخص قادراً على تحديد احتياجاته وترتيب أولوياته، ومستعداً لمواجهة مخاوفه وتحمل نتائج قراراته، حينها يكون الإبداع في ذروته، ويكون التوظيف الأمثل في أفضل صوره، وحينها لا يكتفي الفرد باغتنام الفرص بل سيسعى لصناعتها واستثمارها.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى