مقالاتمقالات مختارة

ديكتاتورية مفضلة.. لماذا تدعم الديمقراطيات الغربية أنظمة الاستبداد؟

ديكتاتورية مفضلة.. لماذا تدعم الديمقراطيات الغربية أنظمة الاستبداد؟

بقلم حسام شاكر

يحار بعض الجمهور العربي في فهم سلوك الديمقراطيات الغربية، عندما يراها تساند أنظمة الاستبداد والقهر والفساد، بما يجدِّد الشكوى النمطية من “ازدواجية المعايير لدى الغرب”. لا تنهض الشكوى من فراغ، فالأنظمة الديمقراطية الغربية لا تُبدي -كعادتها- حرصاً مؤكّداً على نهوض حكم ديمقراطي ناجز في أقطار العالم العربي والإسلامي يستند إلى إرادة شعبية؛ إلاّ في حالات محدّدة استبطنت وقتها حرصاً على الضغط على نظام “مارق” من معادلة الهيمنة المفروضة، وقد يُؤتَى بشعار الديمقراطية -حينها- مشفوعاً بخطاب يفتِّت الشعب إلى إثنيات وطوائف متنازعة؛ بما لا ينهض معه قرار وطنيّ مستقلّ؛ بحضور الديمقراطية أو بغيابها. إنّ السؤال عن تواطؤ الديمقراطيات الغربية مع أنظمة الاستبداد والفساد، ومع طغاة يقهرون شعوبهم ويخنقون أنفاسها؛ يستدعي النظر الفاحص إلى منطق اشتغال المبادئ في عالمنا والتحرّي عن نطاقات عمل القيَم وكيفية الامتثال للشعارات المرفوعة في الأفق.

للمبادئ نطاقاتها

تعلو الشكوى المزمنة من “ازدواجية المعايير” في السياسات الخارجية للديمقراطيات الغربية، وقد لا تبدو هذه السياسات مفهومة أساساً في العالم العربي والإسلامي أو أقاليم أخرى؛ عندما تتباهى بشعارات لا تتردّد السياسات ذاتها في انتهاكها في واقع الممارسة. ممّا تغفل عنه الشكوى التقليدية أنّ بعض الأنظمة المعنيّة كانت في مراحل من تاريخها استعماريةً توسّعية في خارجها وديمقراطية برلمانية في داخلها، لكنّها في السابق واللاحق لم تَرَ تناقضاً بين ديمقراطية الداخل واستبداد الخارج الذي تُسلِّطه على أمم وشعوب ومجتمعات في أقاليم أخرى، ولم تبادر بعد أفول العهد الاستعماري إلى مراجعات نقدية جادّة ومحاسبات أخلاقية صارمة تفتح الملفّات كما ينبغي. من التعبيرات الجلية عن هذه الحالة أنّ فرنسا الجمهورية رفعت ثلاثيّتها المجيدة “حرية، إخاء، مساواة” في المستعمرات أيضاً، لكنّ اشتغال هذه المبادئ السامية والقيم النبيلة ظلّ مقتصراً على نطاقات محدّدة تشمل جمهورها الداخلي ومستوطنيها الفرنسيين دون سواهم.

يشي هذا المنطق بنزوع نحو “أنانية أخلاقية” لا تحرص على اشتمال الآخرين بفضائل القيَم، أو بتعبير مالك بن نبي “إنّ الإنسان الأوروبي لا يحمل فضائله خارج عالمه”. ومن الواضح أنّ هذا المنطق يعمل في الحاضر أيضاً؛ وإنْ استَوْعَب خبرات المراحل ومقتضيات العهد الجديد وأحسَن تجديد حضوره وتبرير ذاته. تَصْلُح “نطاقات المعايير” وجهاً تفسيرياً لحالة “ازدواجية المعايير”، فالمعيار يشتغل في الواقع بأقدار، ويقع بالالتزام به غالباً؛ لكنّ ذلك يَحصُل ضمن نطاق مخصوص يضمحلّ خارجه أو يتعطّل تقريباً، وقد يتّسع النطاق أو يضيق حسب ظروف معيّنة وملابسات مخصوصة. تتجلّى هذه الحالة في واقع السياسات الخارجية لديمقراطيات تحرص على تبجيل قادة مستبدِِّين ومدّ البساط الأحمر لهم وإغداق الثناء العاطر عليهم ومواصلة دعمهم وإسنادهم في واقع الممارسة.

واقع الحال أنّ الديمقراطية ما زالت مقتصرة على الفضاء الداخلي للدول، ويتعطّل اشتغالها -تقريباً- خارج نطاقها. تعبِّر “الأمم المتحدة” عن هذا الواقع باحتكار دول خمس -معظمها ديمقراطية- امتيازات لا تتأتّى لعموم الأمم؛ فتحظى دون غيرها بأحقيّة الحلّ والعقد في “مجلس الأمن” بمعزل عن “الجمعية العامة” التي تعجز عن تحريكِ ساكنٍ في عالمها أو تسكينِ متحرِّك. تخضع الاستراتيجيات والتوجّهات والمواقف في السياسات الخارجية للدول الديمقراطية لأولوية المصالح و”الأمن القومي”؛ التي تتقدّم على أولويّات مقرّرة شكلياً؛ مثل ضمان الحرية والالتزام بحقوق الإنسان. فإنْ تعارضت الأولويات تُحسَم الوجهة بمنطق المصالح والحسابات الاستراتيجية التي تستبق ما سواها.

ديمقراطيات تخشى الديمقراطية

تخشى قوى الهيمنة اشتغال الديمقراطية في كيانات سياسية خاضعة لها أو تابعة لمصالحها أو سائرة في فلكها، كما تخشى قوى الهيمنة ذاتها مخرجات العملية الديمقراطية ومفاجآتها لدى أمم وشعوب أخرى. فالآليّات الديمقراطية قد تساعد صانع القرار في العالم العربي والإسلامي على التحرُّر من الضغوط الواقعة عليه لأنه ما عاد يتصرّف بالأمر وحده، ولأنّ عليه “العودة إلى الشعب”. بوسْع الحاكم الذي يواجه الضغوط ويطارده الابتزاز أن يستند في هذا المقام إلى برلمان فاعل وأن يستقوي بمجتمع مدني نَشِط وأن يتسلّح بأصوات مجتمعية مسموعة لا يسعه أن يتجاوزها. يَسهُل فرض الإملاءات الخارجية الفجّة بمعزل عن هذا كلّه، أي عندما تُدار الدولة بمنطق قبيلة يحتكر شيخُها في ذاته آليّةَ صنع القرار. يطيب لممثلي الديمقراطيات الغربية الاتفاق المباشر مع “شيوخ قبائل” على هذا النحو؛ باستمالتهم حيناً وبابتزازهم حيناً آخر، فيقف أحدهم مكشوفاً بمفرده إزاء الهيمنة الخارجية التي ما صعد إلى الحكم -على الأرجح- إلاّ تحت رعايتها. إنه حاكم يخشى الجماهير التي قد لا تُصَفِّق له في الغد، ويقضّ مضجعه أن يُستبدَل بغيره بإرادة خارجية صعدت به من قبل.

يُتيح الاستبداد إذعانَ أنظمته لقوى الهيمنة الخارجية المفروضة عليه، ويحفِّز الرضوخ لإملاءاتها المتلاحقة، بينما تكبح الآليّات الديمقراطية هذا التدهور عبر مستويات صناعة القرار وفرص المساءلة التي تنطوي عليها؛ إن توفّر قرار متماسك بالحدّ الأدنى على الأقل بين القوى السياسية والمجتمعية بما يعزِّز ذلك. يبدو مفهوماً، إذن، أن يفرض ترمب إملاءات علنية فجّة على الذين يستظلّون بظلِّه، فيفرض عليهم إسداء مئات المليارات من أقوات شعوبهم وموارد أجيالهم القادمة، شرْطاً لاستمرار الغطاء الأمريكي الممنوح لسطوتهم موسماً بعد موسم. في بعض هذا ما يفسِّر خشية الديمقراطيات الغربية من الاشتغال الفعّال لآليات الديمقراطية في بلدان تابعة لها، علاوة على قلقها المزمن من مُخرَجات الديمقراطية التي قد تصعد بقوى تنادي بـ”الاستقلال التامّ أو الموْت الزؤام” تصريحاً أو تلميحاً.

الحاجة إلى أنظمة اعتمادية

بوسع الأنظمة التي تستند إلى شرعية شعبية؛ أن تستقوي بإرادة شعبها في مواجهة معادلات الهيمنة الخارجية، أمّا الحاكم الذي لا يحظى بتأييد مؤكّد من شعبه فيحاول الاستعاضة عن شرعية الداخل بغطاء خارجي من قوى الهيمنة، ولهذا الغطاء أثمانه المؤكّدة. صحيح أنّ بعض المستبدِّين يحظون بتصفيق شعبي وإن كان مفتعلاً ومدفوعاً بقوى الإرغام والدعاية؛ إلاّ أنّ احتكارهم صنع القرار يُوْقِع عليهم وحدهم ضغوط الخارج التي لا طاقة لهم بدفعها، خلافاً للحالة التي قد يتجنّد البرلمان فيها والمجتمع المدني وقوى الشعب وتيّاراته في مواجهة الإملاءات الخارجية المفروضة.

يبدو مفهوماً، بالتالي، أنّ الكويت التي تنطوي على حياة برلمانية نشطة ومجتمع مدني يََقِظ وأصوات شعبية مسموعة؛ امتنعت عن الهرولة إلى القاعدة الحربية الضخمة في فلسطين، ولم تنخرط في موجة استرضائها واستجدائها بأحابيل “التطبيع” المدفوعة بإملاءات خارجية تركت مفعولها مع غيرها. تبقى الأنظمة الاعتمادية على الخارج مكشوفة لقوى الهيمنة قياساً بأنظمة أكثر استقلالاً. ومن مقتضيات هذا الانكشاف أنّ لجلوس أحدهم على العرش أثمانه المستحقّة من الحسابات الاستراتيجية والتقاطعات المصلحية. يتمادى أحدهم في التطوّع بتنازلات استراتيجية وإسداء ثروات طائلة إلى قوى الهيمنة لمجرّد تمكينه من الحكم ولصرف الأنظار عن انتهاكات يقترفها. أمّا مَن لا يملكون الثروات فقد يكفيهم فتح أبواب البلاد لاحتكارات خارجية تستنزف مقدرات الشعب وتكرِّس تبعية اقتصادية غير عادلة وتصادر فرص الأجيال المقبلة.

من العِظات المُلهِمة أنّ القيادة التركية واجهت اختباراً حرجاً عندما قرّرت الولايات المتحدة غزو العراق سنة 2003. فأنقرة تبقى شريك واشنطن الاستراتيجي، وتجمعهما عروة أطلسية وُثقى لا انفصام لها، ولا غنى للولايات المتحدة عن تعاون تركي معها في الحرب مع العراق المجاور؛ أسوة بما جرى سنة 1991. لكنّ البرلمان التركي وقف بالمرصاد لأي انخراط في الغزو؛ فقطع الطريق على المساعي الأمريكية بقرار يمنع المشاركة في الحرب. استند قرار القيادة التركية – بصفة مُريحة له – إلى إرادة ممثلي الشعب في الحياة الديمقراطية، بما أعفاه من تصعيد الضغوط الأمريكية عليه. لكنّ الأنظمة التي لا تعرف ديمقراطية ولا تنطوي على حياة برلمانية؛ تواجه ضغوط الخارج المُهيْمن عليها بظهر مكشوف، فلا إرادة شعبية تستند إليها ولا حواجز ديمقراطية تحصِّن قرارها، فتضطر في انكشافها هذا إلى الانصياع لإملاءات الخارج المُهيْمن عليها وترضخ صاغرةً بلا نقاش.

“ضمان الأمن والاستقرار”

تمنح أنظمة الاستبداد والفساد وعوداً بتحقيق حالة من الثبات اللازم لاستقرار المصالح الخارجية. تحرص هذه الأنظمة على تأكيد دورها في “ضمان الأمن والاستقرار”، بما يُغري قوى الهيمنة الخارجية بالاعتماد عليها في رعاية اهتماماتها واستدامة مصالحها. لا يقتصر “ضمان الأمن والاستقرار” – في هذا السياق – على استتباب الحالة الأمنية في البلاد، فالمغزى يمتدّ ليشمل الاستقرار السياسي المرتبط في هذه الحالة بقيادةٍ متفرِّدة ونظامٍ مستبدّ. يَسْهُل على قوى النفوذ الغربي إبرام تفاهمات وتعاقدات مع عنوان سلطوي وحيد قابض على مقاليد البلاد ويُتاح الضغط عليه وابتزازه إن تطلّب الأمر؛ قياساً بحكومات ديمقراطية تتقلّب في خياراتها من عهد إلى آخر وتُواجِه مُساءلةً برلمانية ومُحاسبةً شعبية؛ بما يُقيِّد الصلاحيات الممنوحة لها في التصرّف بمقدرات البلاد وموارد الشعب.

قد لا تنجح الحكومات الديمقراطية الحقة في كسر معادلة الهيمنة المفروضة عليها، لكنها تتأهّل لمناقشة أرباب الهيمنة ومفاوضتهم أخذاً وردّاً، وهي خبرة لا ترغب بتجريبها تقاليد الهيمنة المزمنة. وتبقى لهذه التقاليد فرص لتضييق هوامش التصرّف على شعوب تعيش حياة برلمانية، فتضغط على حكوماتها اقتصادياً من خلال سياسات المِنَح والقروض والضمانات مثلاً، أو عبر فرص التبادل التجاري وتدفّق الاستثمارات، وربما عبر أبواب أخرى؛ قد تبلغ حدّ التلاعب بالنسيج الداخلي للبلاد بحيَل شتى وإثارة ملفّات مطوية.

كانت حركة “طالبان” خياراً ملائماً للمصالح الأمريكية في أفغانستان خلال النصف الثاني من التسعينيات، عندما نجحت في بسط سيطرتها وتحقيق الاستقرار وكبحت التنازعات الداخلية فوق رقعة جغرافية مرشّحة لمرور شحنات الطاقة عبرها، ثمّ تبدّلت الحسابات الأمريكية من بَعد بما أفضى إلى إسقاط حكمها بغزو أمريكي مُباشِر. لم تكن التقارير عن سلوك “طالبان” الداخلي في الحكم لتَصرِف الموقف الأمريكي عن مواضعه، لكنّ اللحظة التي تقرّرت فيها إزاحة هذه الحركة عن السلطة دفعت بملفّات متراكمة عن سلوكها الداخلي وتمّ استعمالها ضمن حملات دعائية لتبرير الغزو، فتحدّثت بعض التعليقات الناقدة وقتها عن “امبريالية حقوق الإنسان”؛ التي تستعمل الحقوق والحريات ذريعة للهيمنة والتوسّع في مواضع محدّدة وتتجاهلها في مواضع أخرى. لا يبدو الرِّهان آمِناً ومستداماً، فقوى الهيمنة الخارجية تُواجِه معضلةً جوهرية عندما تراهن على “الأمن والاستقرار” في الأمَد العاجِل والمنظور على حساب تثبيت ركائزه في آمادٍ آجِلة. فمَن يزرع الاستبداد ويحمي الفساد؛ يحصد الغضب ويَجني التطرّف ويتلقّى أفواج المهاجرين صوب “فردوسه الأرضي” المتوهّم.

غفلة جماهير الديمقراطيات الغربية

تفرض التناقضات بين الشعار والممارسة، أو بين “الداخل” و”الخارج”؛ تساؤلات محقّة عن كيفية تمرير هذه التقاليد المزمنة في ديمقراطيات غربية يُفترَض أنّ سياساتها ومواقفها تخضع لآليّات ديمقراطية ومساءلة شعبية. تتبدّد الحيْرة لدى ملاحظة أنّ السياسات الخارجية ليست معروضة للنقاش الديمقراطي الجادّ أساساً، وأنها مُستبعَدة تقريباً من المداولات الانتخابية وبرامج الأحزاب إلاّ في عناوين مختزلة، وأنّ جمهور الناخبين ذاته ضعيف المعرفة بفحوى الاستراتيجيات والسياسات الخارجية حتى أنه يميل إلى التسليم بروايات تُتْلى عليه من منصّات السياسة ومنابر الإعلام بُكرَةً وعَشِياً.

من القِسط الإقرار بأنّ جماهير الديمقراطيات الغربية ما زالت في غفلة عن كثير مما يُقترَف باسمها حول العالم، حتى أنّ بعض السياسات الخارجية المُزمِنة لم تخضع منذ البدء لأي نقاش موضوعي جادّ؛ رغم وطأتها الشديدة على شعوب وأقاليم في عالم مترابط. لا ينفي ذلك وجود اعتراضات لاذعة في فضاء الديمقراطية على وجهة بعض السياسات والمواقف الخارجية؛ لكنّ تقتصر غالباً على أوساط ناشطة وفئات نخبوية تكترث بما يجري “وراء البحار”، وإنْ تمدّد النقد أحياناً إلى حالة جماهيرية فإنه يبقى تفاعلاً جزئياً في موضوعه وموجةً مؤقّتة في أمَدِه. وإنْ تضافرت الضغوط الشعبية على السياسات الخارجية للديمقراطيات الغربية فإنها تبقى مؤهّلة لإبرام استجابات شكلية وجزئية معها لا تمسّ جوهرها مع اللجوء إلى فنون المماطلة والمرواغة أحياناً. يقتدر راسمو الاستراتيجيات الخارجية وصانعو القرار السياسي في الديمقراطيات الغربية على تسويق توجّهاتهم واستعراض مواقفهم باستحضار تعبيرات منمّقة تضلِّل الجمهور أو لا تصارحه بالصورة الكاملة وبالانعكاسات الواقعية لتوجّهاتهم. إنّ ضعف معرفة جماهير الديمقراطيات الداخلي بوطأة سياسات دولهم وحكوماتهم على شعوب ومجتمعات أخرى؛ يُغري هذه السياسات بالتمادي في نهجها المُعتاد هذا؛ مع محاولة تغليفه بما يدغدغ توقّعات شعوبها.

واقع الحال أنّ أسوأ الأنظمة الاستبدادية مؤهّلة للتسويق الدعائي لدى جمهور الديمقراطيات الغربية بمنحها امتيازات تلائم كلّ مرحلة، من مواجهة “الخطر الأحمر” خلال الحرب الباردة، إلى مواجهة “الإرهاب” ومكافحة “التطرّف” في العهد الحالي، وملاحقة “المتطرِّفين” أو ما يسمّى صراحةً “الإسلام السياسي” (وهي مقولة إشكالية للغاية). يتلاعب هذا التسويق الدعائي في نسخه المتعاقبة؛ بأولوية طمأنة الشعوب الغربية من الفزع الداخلي، فمطلب الطمأنة يتقدّم في وعي جماهير الديمقراطيات المذعورة على “أمنيات” إشاعة الديمقراطية و”ترَف” ضمان الحريات في بلدان “بعيدة” قد لا تبدو بهذا المنطق مؤهّلة لها بعد. تمّ توظيف التحذيرات المكثّفة من “الإرهاب والتطرّف” لتسويغ الدعم السياسي والعسكري والأمني والمادي الممنوح لأنظمة تقهر شعوبها، وجرى تسويق “إصلاحات اجتماعية” في بلدان معيّنة على أنها بمثابة “تخفيف قبضة رجال الدين عن الحياة اليومية”؛ بصفة تجعلها بديلاً عن الإصلاحات السياسية وضمان الحقوق والحريات، وصار الحديث عن “قيادة السيارة” خياراً بديلاً عن قيادة الشأن العام.

“ديكتاتوري المفضل”

يختصر دونالد ترمب الطريق على مساعي التأويل والتحليل؛ بما يصدر عنه من تعبيرات مباشرة تتنازل عن تقاليد التكلّف والمجاملة المعهودة. فسيد البيت الأبيض لا يبدو حريصاً على تغليف سياساته أو تجميل مواقفه أو تلطيف تعبيراته، فتأتي في صراحتها الفجّة كاشفة للمُستَتِر وفاضحةً لما تم كنسه تحت البساط عهوداً متعاقبة. تعبِّر تجربة ترمب في الحكم، منذ مطلع 2017، عن الأواصر القائمة بين الديمقراطيات الغربية وأنظمة الاستبداد والفساد، وهو امتياز بالمكاشفة تحوزه جماهير الحاضر لم تَحظَ سابقاتها بما يشبهه. إنه يخاطب القادة العرب بإملاءات مُهينة على مسامع شعوبهم، ولا يتردّد في ابتزاز أتباعه القابعين في قصور الحكم بتصريحات يُسدِّدها أو تغريدات يُطلِقها، حتى بلغت به صراحته حدّ نعت جنرال عربي بوصف “ديكتاتوري المفضّل” -على هامش قمّة السبع الكبار في فرنسا 2019- الذي سرت به الرُّكْبان.

مع دونالد ترمب طرأ تغيير على أساليب التعبير عن واقع مزمن؛ وليس على طبيعة هذا الواقع المحكوم بمعادلة تتواطأ فيها منذ عهود مديدة هيْمنةُ الخارج مع استبداد الداخل، وإن بقيت شعاراتُ الديمقراطيات الغربية عن التزام سياساتها الخارجية بدعم الحريات والحقوق مرفوعةً في الأفق. ترى الديمقراطيات الغربية مصالحها مع أنظمة الاستبداد والفساد في العالم العربي والإسلامي، وهو ما يتّضح قبل 2011 وبعد 2013، وقد يثير قلقها أن تنهض حكومات مستقلّة تستند إلى إرادة شعوبها وتقتدر على المناقشة والأخذ والردّ مع قوى دولية متنفِّذة؛ بما يجسِّد سيادةً حقّة على قرارها المُصادَر ومواردها المُستنزَفة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى