مقالاتمقالات مختارة

دوافع التطبيع و”طبائع الاستبداد”

دوافع التطبيع و”طبائع الاستبداد”

بقلم سعيد الشهابي

مع استمرار تداعيات مشروع التطبيع بين حكومتي الإمارات والبحرين مع الاحتلال الإسرائيلي، تتعمق التساؤلات حول دوافعهما للقفز على الإرادة الشعبية في العالمين العربي والإسلامي، واحتمالات توسع ردود الفعل داخل البلدين. فبرغم القمع الذي يعيشه سكان الإمارات والبحرين، فقد ظهرت بوادر التململ والرفض في الأجواء الشعبية.

أصدرت لجنة مكافحة التطبيع الإماراتية بيانات شجبت فيها مغامرة ولي عهد أبوظبي الذي يعتبر المسؤول الأول عن السياسة الخارجية، كما عبر بعض الإماراتيين عن سخطهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. أما البحرين فقد شهدت هبة شعبية قوية ضد الخطوة الحكومية، واعتبرتها مبررا لمعارضة الحكومة والمطالبة بتغييرها. وقد تميز الحراك الشعبي البحراني بقوته وتعدد الأطياف المشاركة فيه وتنوع أساليبه.

 

فلم تتوقف الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات الرافضة للتطبيع، ولم تهدأ وسائل التواصل الاجتماعي التي اكتظت بمواقف التنديد والرفض. وتعددت المقالات والتحليلات والمقابلات حول ذلك الموضوع. ولا يستطيع من يراقب المشهد البحراني إلا استنتاج حقيقة واحدة؛ أن هناك شعبا رافضا بشكل مطلق سياسات حكومته، وراغبا في الإطاحة بها لقيامها بما يعتبره الشعب “خيانة”.

وزاد من مشاعر الغضب، إصرار الحكم على الاستفزاز باستضافة الإسرائيليين في مجالات الرياضة والفن والإعلام بشكل سريع. وفي ذلك من الاستفزاز ما لا يحتمله الكثيرون.

ما الذي دفع حكومتي الإمارات والبحرين للقيام بالخطوة التي أدت لنتائج كارثية لمن قام بها سابقا؟ فما يزال مشهد عملية الاغتيال التي تعرض لها الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات ماثلة للعيان؛ فقد دفع ثمن تحديه ثوابت الأمة ومشاعرها بزيارة القدس وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد. يومها برر السادات تلك الخطوة التي اعتبرتها الجماهير العربية “خيانة” بأنها ضرورة لإنهاء حالة التوتر مع الكيان الإسرائيلي لكي تتوفر فرصة بناء مصر واقتصادها. وبعد أكثر من أربعين عاما لم يتغير وضع مصر نحو الأفضل، بل حدث عكس ذلك تماما؛ فقد تراجع دور مصر السياسي ونفوذها في العالم العربي وعلى الصعيد الدولي، بالإضافة لتراجع اقتصادها وتردي أوضاعها السياسية.

فإذا كان السادات قد استهل حقبة حكمه بإطلاق سراح الآلاف من السجناء الذين اعتقلوا خلال فترة حكم سلفه، جمال عبد الناصر، فإن الحاكم العسكري الحالي قد فتح السجون على مصاريعها فأصبحت تضم أكثر من 30 ألف معتقل سياسي، يمثل الإخوان المسلمون نسبة كبيرة منهم.

أما مشروع التطبيع الذي كان الأمريكيون والإسرائيليون يأملون بحدوثه، وعلى مدى العقود الأربعة الماضية لم تؤد البوابة المصرية إلى طريق معبّد للكيان الإسرائيلي، ومع أن كلا من الأردن والمغرب قد اتخذتا خطوة مماثلة نجم عنها “اتفاقات سلام” مثل وادي عربة، إلا أن التطبيع لم يحدث لأن الخطوات التي تمت كانت بضغوط أمريكية كبيرة. لذلك تغيرت السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة، وأصبحت تركز على التمهيد لإقامة علاقات رسمية مع بعض الحكومات بفتح جسور سرية واتصالات غير معلنة، بموازاة تمييع سياسة المقاطعة من الدول العربية، لكسر القطيعة النفسية بين العرب و”إسرائيل”.

وسجلت زيارة وزير البيئة الإسرائيلي، يوسي بيلين، إلى البحرين في 1994 واحدة من أولى الخطوات على طريق التطبيع الذي أعلن عنه مؤخرا.

ويبقى السؤال: ما الذي دفع حكومتي الإمارات والبحرين لتوقيع “اتفاق سلام” مع الكيان الإسرائيلي الأسبوع الماضي؟ فالحكومتان ليستا من “دول المواجهة” ولم تدخلا في نزاع مسلح مع المحتلين، وليس هناك ضرورة تستدعي “تبريد نقاط التماس” التي لا وجود لها. وهذا السؤال لن يجد الاجابات الوافية نظرا لحساسية بعض الأسباب. ويمكن رصد أربعة أسباب لإقدام أبوظبي والمنامة على خطوة التطبيع:

مع استمرار تداعيات مشروع التطبيع بين حكومتي الإمارات والبحرين مع الاحتلال الإسرائيلي، تتعمق التساؤلات حول دوافعهما للقفز على الإرادة الشعبية في العالمين العربي والإسلامي، واحتمالات توسع ردود الفعل داخل البلدين.

الأول: الرغبة الأمريكية لتحقيق اختراق دبلوماسي في الشرق الأوسط بهدف تسويق دونالد ترامب وتحسين فرص إعادة انتخابه للرئاسة الأمريكية قبل نهاية العام. هذا الرئيس لم تشهد أمريكا في تاريخها المعاصر أسوأ منه، حتى أصبح موضع تبرم ذوي الذوق الإنساني بدون استثناء. فبالاضافة لتطرفه اليميني الذي يجعله في خانة “العنصريين”، تبنى سياسات تؤكد ذلك عندما أصدر أمرا بمنع مواطنين من سبع دول إسلامية من دخول أمريكا. كما أنه أصبح رمزا للكراهية وتحدي الذوق العام، وعدم قدرته على استيعاب التطورات العلمية وخطر الوباء الذي عصف بأمريكا وحصد أرواح الآلاف من أبنائها. هذه الرغبة الأمريكية تجسدت كذلك في قرار ترامب نقل سفارة بلده إلى مدينة القدس في تحد واضح للقرارات الدولية التي تعتبر المدينة “محتلة”.

الثاني: على مدى أربعة عقود، تأسست السياسة الغربية تجاه المنطقة على أعمدة عديدة أهمها شيطنة إيران والدفع لاحتضان “إسرائيل” والتطبيع معها. هذه السياسة كانت واضحة تماما، ولكن تم ترويجها بأساليب هادئة، استخدمت فيها الأموال النفطية على نطاق واسع.

الثالث: أن إدارة ترامب استهدفت ظاهرة “الإسلام السياسي” بشكل ممنهج وثابت. فالمنتمون لهذا الاتجاه من دول وحركات إسلامية، حملت لواء رفض الاحتلال الإسرائيلي والاعتراف بكيانه. وتوافقت رغبات الإدارة الأمريكية مع توجس الدول الثلاث من تبعات “الإسلام السياسي”، فيما لو فسح له المجال للاستمرار، بالإضافة للرغبة الإسرائيلية لاحتواء تلك الظاهرة التي لو فسح المجال لها ضمن مناخ من الحرية، لربما اجتاحت صناديق الاقتراع في أية انتخابات ديمقراطية حرة في تلك البلدان.

الرابع: أكدت العقود السبعة الأخيرة من تاريخ المنطقة معارضة أي توجه سياسي في المنطقة يطالب بتحرير فلسطين ويعارض التعامل مع “إسرائيل”. ولذلك قمعت الدعوات كافة لإقامة منظومات سياسية ديمقراطية يصعد للحكم من خلالها هؤلاء.

ويمكن اعتبار الحريات العامة والديمقراطية من بين ضحايا الاحتلال الإسرائيلي. فالمشاعر الشعبية العامة في أنحاء العالم العربي كافة، ترفض التخلي عن قضية فلسطين، ولو وجدت مسارات سياسية تحول تلك المشاعر إلى سياسات وطنية ثابتة، لما أقدم أحد من الحكام على خطوات من هذا النوع، خصوصا مع استمرار العدوان الإسرائيلي على الدول العربية المجاورة والجهات الفلسطينية عامة. ويعتقد حكام الإمارات والبحرين أن بناء الجسور مع “إسرائيل” يحميهم من الضغوط الخارجية للقبول بالتحول الديمقراطي.

الخامس: أن هؤلاء الحكام يشعرون بالخوف المستمر على مواقعهم السلطوية من معارضيهم، وفي السنوات العشر الأخيرة استهدفت حكومة الإمارات معارضيها بشراسة، واعتقلت العشرات منهم وما يزال أغلبهم معتقلا. وتطالب المنظمات الحقوقية الدولية بإطلاق سراح الناشط الحقوقي أحمد منصور ومحمد الركن وسواهما. ومن بين أسباب العدوان السعودي ـ الإماراتي على اليمن المتواصل منذ أكثر من خمسة أعوام، الخشية من وجود يمن ديمقراطي حر غير خاضع للإملاءات السعودية. ولذلك ترى الإمارات في التطبيع مع “إسرائيل” وسيلة لحماية الحكم من الغضب المتوقع من ضحايا القمع.

أما البحرين، فلها قصة مختلفة تماما؛ فمنذ أكثر من مائة عام لم تتوقف الاحتجاجات المطالبة بمنظومة سياسية عصرية تضمن للمواطنين حقوقهم الطبيعية المشروعة، ونجم عن هذا التوتر شعور الحكومة بعدم القدرة على مواجهة التحدي الداخلي بمفردها؛ فاستدعت في العام 2011 قوات سعودية وإماراتية لقمع ثورة شعبها التي انطلقت ضمن “الربيع العربي”.

هذه العوامل مجتمعة توفر مادة لاستيعاب بعض دوافع حكومتي الإمارات والبحرين للتطبيع مع “إسرائيل”. وكان بإمكانهما عدم فعل ذلك؛ لأنه انقلاب على الثوابت العربية والإسلامية، وهدية لبنيامين نتنياهو الذي يواصل عدوانه على الفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة. فالبلدان ليسا بحاجة حقيقية للدعم الإسرائيلي، ولا يتوقع أن تنهال الاستثمارات الإسرائيلية على المنطقة، بل العكس هو الذي يحدث، ومن المتوقع أن تحصد “إسرائيل” فوائد اقتصادية وسياسية كثيرة على حساب الشعب الفلسطيني. لذلك اعتبر الشعبان الإماراتي والبحراني خطوة التطبيع “خيانة”، وبذلك تهيّأت ظروف جديدة لحراكات جماهيرية جديدة يغذيها الغضب إزاء السياسات الرسمية القمعية تجاه المواطنين من جهة، والخيانية تجاه الشعب الفلسطيني والإجماع العربي.

إنها واحدة من اللحظات التاريخية التي لن تمر بدون أن تترك آثارا خطيرة على الوضع العربي عموما، وقد تساهم في تفجير أوضاع المنطقة نظرا لتعمق الشعور بالإحباط و الخيانة والاستسلام.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى