دعوة التوحيد: بين سلامة المنهج.. ومنهج السلامة (1)
بقلم د. عبد العزيز كامل
كتبتُ مقالًا في فقه الدعوة بإحدى المجلات الإسلامية قبل خمسة وعشرين عامًا تقريبًا..وأردت البحث عنه على الشبكة، فوجدته أو بعضه بعنوانه الموجود أعلاه…لكن بأسماء مختلفة منتحلة.. ورأيت أن أعيد نشر بعضه لبقاء مسوغات كتابته..بل وزيادة دواعيها.. قلت فيه : .. ” نصر الدين ونشر دعوته، هما الهدف المعلن لكل التجمعات الإسلامية المعاصرة، ولكن… يتساءل المرء أحيانا ً- وهو يتأمل في المناهج والبرامج المشهورة والمنشورة لبعض تلك التجمعات الإسلامية – هل كانت تغيب بعض المسلمات الشرعية والبدهيات العقلية أحياناً عن أذهان من يضعون تلك المناهج..؟
إننا نضطر للإجابة بنعم.. عندما نلمح أن كان هناك تركيز ظاهر عند وضع تلك المناهج أو تطويرها أو تعديلها، يعطي الأولوية للطريق الآمن قبل الطريق الصحيح ، عندما يكون هذا الطريق محفوفًا ببعض التبعات والمخاطر . صحيح أن تأمين الطريق لسالكيه مطلوب، غير الطريق قد يكون آمناً لكنه لا يوصل للغاية ، في حين أنه قد تعتوره وتعترضه أنواع من الشدائد والعقبات ؛ بينما لا يوصل غيره إلى غاية إعلاء الراية ..
دعونا نسأل بصراحة: هل يمكن أن توجد دعوة صحيحة وكاملة تبتغي نصرة دعوة التوحيد، وهي مع ذلك لا تضحي، ولا تنتظر أن تُبتلى أو تواجه الشدائد، أو تدخل في صراعات مع الباطل..؟
إن الإجابة على السؤال واضحة – لمن أراد الوضوح – من تاريخ الدعوات الربانية عبر العصور، حيث فهم رواد هذه الدعوات والرسالات أن طريق الجنة وعْرٌ محفوف بالمكاره، ومن ثم فإن الطريق إلى نصرة الدين لا يعبر بدون تضحيات، لقد فهموا تلك الحقيقة القرآنية القدرية التي نزل بها الوحي: ( أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ )[العنكبوت:2] فالناس إن كانوا صادقين في إيمانهم وجادين في طريقهم؛ فسوف يتعرضون للابتلاءات حتى يُختبر هذا الصدق فيهم : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )[العنكبوت:3].
تعالوا ننظر في أبرز دعوات التوحيد عبر العصور .. فأول مايطالعنا دعوة أبي الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام).. تُرى.. هل كان بوسعه أن لا يستعلن بدعوته في وجه الباطل معرِضاً نفسه – وهو لم يزل في سن الشباب – إلى مخاطر الصدام مع قوم غلاظ الأكباد من المشركين الذين منهم أبوه وأهله وذووه؟ هل كان بوسعه ألا يفاصل الباطل معلناً البراءة منه ومن أتباعه، ألم تكن أمامه طريق أخرى يمضي فيها بدعوته حفاظاً على شبابه وأتباعه ومصلحة دعوته؟! لماذا لم يكتف بذم الأصنام وسبها، أو وعظ عابديها وإقناعهم حتى يهدموها بأنفسهم؟! لماذا لم يختر الطريق الأسلم ويظل مقيماً بين أهله دون أن يضطر إلى قطع الصحارى والقفار مهاجراً من العراق إلى الشام ؟! ..إن إبراهيم – عليه السلام – اختار المنهاج الصحيح ثم تحمل تبعاته.. ولهذا انتصرت دعوته وبقي ذكره في العالمين لثباته على النهج المستقيم. . ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[النحل:120-121].
وهذا موسى – عليه السلام – يقوم في قومه بدعوة خاصة ليست عامة للعالم.. ومع ذلك يسلك طريقاً مملوءاً بالصراعات مع طغاة الأرض في زمانه : فرعون وهامان وحاشيتهما وجنودهما.. ويصدع بالحق في كل ملأ، ويتحدى ويقبل التحدي ، ويصبر على المكاره ويصبر أتباعه : ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [الأعراف:128]، ويمضي في طريق المعركة مع الباطل حتى غايتها، فإذا ما هلك فرعون وجنوده، استعد لمرحلة أخرى من الجهاد ..( يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) [المائدة:21].
إن الطريق التي سلكها إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ هي ذات الطريق التي سار فيها الأنبياء والرسل (عليهم صلوات الله وسلامه) غير أن إمام الملة الحنيفية – إبراهيم – أعطى المثل والقدوة الحسنة في سلوك الطريق الأقوم..ولذلك أمر الدعوة صلى الله عليه وسلم بأن يسلك الطريق نفسها ، دون أن ينتظر منها نفعا خاصا أو جاها شخصيا..بل كان مرامه ومراده هداية الناس .. فبعد أن حكى الوحي معالم سيرة أبي الأنبياء جاء خطابه لخاتم الأنبياء : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) [الأنعام/ 95 ]..
سلامة المنهج ليست شرطا فقط في نصرة الدين..بل في النجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
(المصدر: صفحة د. عبد العزيز كامل على الفيسبوك)