مقالاتمقالات مختارة

دعوة إلى إعادة كتابة العقيدة

بقلم وائل البتيري

اصطلح العلماء على أن “العقيدة” هي الأمور التي يجب على كل مسلم أن يعقد عليها قلبه، دونما شك يعتريه، أو ريب يراوده، وكأنه يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: “لا تشرك بالله ولو قُطّعت وحُرّقت”.

وهذا المعنى الذي جرى عليه المسلمون في تعريف العقيدة؛ يدفعك إلى عدم تصور أن لا يكون المسلمون في أمر الاعتقاد إلا على قلب رجل واحد، فبهذا التعريف للعقيدة تتناسق مسائل الاعتقاد وتتآلف في سلك واحد يجتمع عليه المسلمون في كل زمان ومكان، إذ الأمر القطعي الذي لا تطرأ عليه الظنون والاحتمالات؛ لا يمكن أن يختلف عليه مسلمان البتة، ولو حصل أن اختلفا؛ لخرج أحدهما من دائرة الإسلام .

الواقع على خلاف ذلك تماماً، فقد وقع خلط كبير في مسائل الاعتقاد، وتداخلت فيها الظنيات بالقطعيات، حتى غدت ظنيات المسائل أموراً لا تقبل الجدل أو الأخذ والرد، وصار المخالف في واحدة من مسائلها كافر أو ضال أو مبتدع، وافترق المسلمون طوائف وفرقاً وجماعات، لكل عقيدته الخاصة التي يدعي أنها عقيدة النجاة التي لا يخالطها ريب ولا يمازجها شك.

لقد وقع خلط كبير في مسائل الاعتقاد، وتداخلت فيها الظنيات بالقطعيات، حتى غدت ظنيات المسائل أموراً لا تقبل الجدل أو الأخذ والرد، وصار المخالف في واحدة من مسائلها كافر أو ضال أو مبتدع!

وهكذا.. بدل أن تكون (العقيدة) هي الأصل الجامع لكلمة المسلمين؛ غدت العامل الأساس في خصوماتهم واختلافهم فيما بينهم . ومما يثير الحسرة والألم أن هذه الدسيسة سرت بين علماء كبار – متقدمين ومتأخرين ومعاصرين – وعلت أصواتهم كلٌّ يصدح بعقيدته ويكيل للمخالف التهم والأوصاف الشنيعة، حتى تلاشى صوت العلم والإنصاف؛ فما عدت تسمع له ولو همساً.

مصطلح (العقيدة) لم يرد لا في الكتاب ولا في السنّة، ولا يلزم من عدم وروده إسقاطه؛ فلا مشاحة في الاصطلاح، ولكن المطلوب هو التمسك بحرفية هذا التعريف الذي أوردناه في بداية المقالة، وعلى ضوئه نعيد كتابة العقيدة لنقصرها على القطعيات التي يجتمع عليها المسلمون ولا تقبل العقول السليمة لها إلا معنى واحداً بيقين.

لماذا لا نجد في كتب العقيدة أنه يجب على المسلم أن يعتقد تحريم الربا والزنا والخمر والكذب والسرقة والرشوة… إلى غير ذلك من المحرمات القطعية التي يجب على كل مسلم أن يعتقد تحريمها؟

لماذا لا نجد في كتب العقيدة أنه يجب على المسلم أن يعتقد أن الله فرض عليه الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن يتوضأ للصلاة، وأن يغتسل إذا أجنب؟

لماذا لا نقرأ في هذه الكتب أن من عقيدة المسلم وجوب صلة الأرحام، والإحسان للجار، وتجنب إيذاء المسلمين، وإعانة الفقراء والمحتاجين؟

لعل الإجابة السديدة على هذه التساؤلات هو أن واضعي هذه الكتب أراد كلٌّ منهم الانتصار لما تبنّوه عقيدة للإسلام من مسائل اجتهادية لا ينبغي أن تورد موارد القطعيات، فملؤوا بهذه المسائل كتب الاعتقاد، وركزوا عليها، وأوردوا تحت مباحثها شبهات (الخصوم) من إخوانهم المسلمين، وطفقوا يفندونها بأشنع العبارات، وأبشع الأوصاف التي يوجهونها لمن ينبغي أن يكونوا أرحم الناس بهم.

قد يقول قائل: إن مصنفي كتب العقائد لم يُدخلوا الأمور التي ذكرتها آنفاً لأن العقيدة مختصة بالغيبيات فقط.

فأقول: إذن لماذا أدخلتم فيها بعض الأحكام، كالمسح على الخفين، وعدم الخروج على الإمام الجائر، وما سواها؟

ولماذا أدخلتم فيها الظنيات، وأنتم تعرفونها بأنها خاصة بالقطعيات التي لا تحتمل الشك والمواربة؟

ولك – إنْ أردتَ الوقوف على مثال يجلي لك الحقيقة – أن تنظر في مبحث الأسماء والصفات، وكيف أن الخلاف في هذا الباب استغرق من المسلمين معارك طويلة لم نشهد لها نهاية إلى الآن، ولا نستطيع أن نتصور أن تنتهي هذه المعارك ما دام المسلمون يعظّمون الموروث، ولا أقصد الموروث بشقيه (الصائب والخاطئ) وإنما أقصد الشق السلبي منه.. فليس غريباً على أمة الإسلام أن تعظّم الموروث الحق الذي صنع منها خير أمة، ولكن العجب كل العجب في أنها عظّمت ما خالف الحق منه، فترى طوائف المسلمين – على اختلاف مسمياتها – تتنازع أقوال ومواقف من سلف، من غير نظر إلى أنها ربما تخالف الكتاب والسنة.

ليس غريباً على أمة الإسلام أن تعظّم الموروث الحق الذي صنع منها خير أمة، ولكن العجب كل العجب في أنها عظّمت ما خالف الحق منه، فترى طوائف المسلمين تتنازع أقوال ومواقف من سلف، من غير نظر إلى أنها ربما تخالف الكتاب والسنة

ولو أصغى القوم إلى الإمام الشاطبي لأراحوا واستراحوا، حيث يقول رحمه الله في “الاعتصام” (3/118): “.. ومن أشدّ مسائل الخلاف – مثلاً – مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين؛ وجدنا كلَّ واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه، ونفي النقائص، وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، وذلك لا يُخلّ بهذا القصد في الطرفين معاً، فحصل في هذا الخلاف الشَّبَهُ الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع”.

أعلم جيداً أن هذا الكلام يُسخط كثيراً من أتباع هذه المذاهب العقدية المتفرقة.. ولكني أوجهها دعوة إلى أهل العلم المنصفين؛ أن يعيدوا كتابة العقيدة لتكون عقيدة لجميع المسلمين .. فإذا أراد شخص أن يدخل الإسلام قلنا له: “هذه عقيدتنا التي تجمع كلمتنا وتوحد أمرنا، وإذا أردت أن تكون واحداً منا فما عليك إلا أن تعتقدها، وتقر بها، وتجريها على لسانك، وتظهر آثارها على جوارحك”.

وإذا بقينا عاجزين عن ذلك؛ فالخير لنا أن ندس رؤوسنا في التراب، خجلاً من أن يرانا الآخر متفرقين.. وعقيدتنا هي التي تفرّقنا!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى