بقلم د. أكرم كساب
هناك مسلمات ينبغي على الناظر في السياسة الشرعية إدراكها، والوقوف عندها قبل إصدار القرارات، أو تدبيج الفتاوى، إذ هذه المسلمات تصونه من الوقوع في الخطأ، أو الابتعاد عن الصراط المستقيم، وهي كالآتي:
- أن شريعة الله سبحانه وتعالى لها من الأوصاف ما ليس لغيرها من الشرائع، ومن ذلك وصفها بالشمول والتمام والكمال، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}( المائدة:3)، وهذه الرسالة التي جاءت بعد تاريخ رسل حافل بالنبوات أضحت (رسالة تخاطب «الإنسان» من وراء الظروف والبيئات والأزمنة لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير.. وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة «الإنسان» من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساس فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان.. وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة «الإنسان» منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإطار.. (في ظلال القرآن/ سيد قطب).
- أن الشريعة الإسلامية ليست بحاجة إلى تجديد من خارجها، وإنما تجديدها من داخلها، وفي إطار ما لها من مقاصد، وفي الحديث:” إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا “( رواه أبو داود وصححه الألباني )، ولا مانع من أن نراعي هذا التجديد الذي هو طبيعة من هذا الدين، على أن يكون التجديد، بعيدا عن مناطق الثبوت التي لا تقبل أي تجديد.
- أن الشريعة الإسلامية تساير أحوال الناس وتطور حياتهم، ولا تقف عائقا أبدا أمام تطور يحقق لهم مصلحة أو يبعد عنهم مفسدة. وإذا كان الابتداع مرفوضا في أمور الشرع فإن الإبداع والابتداع والتطوير في أمور الدنيا نحن مأمورين به. إن الإسلام لم يقف حجر عثرة أمام تطور المسلمين أبدا على مرّ التاريخ، وإنما المسلمون بجهلم هم من وقفوا صخرة عاتية أمام التطور والرقي، وقارئ التاريخ يدرك أن المسلمين كلما تمسكوا بشرعهم تقدموا ورقوا، وكلما ابتعدوا عن شرع ربهم تخلفوا وضاعوا، ورحم الله أبا الجسن الندوي حين عنون لهذه الحالة بكتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين). ولقد كان العلماء يقولون: شريعة الله صالحة لكل زمان ومكان، إلا أن عبد العظيم الديب قال فأبدع: لا يصلح كل زمان ومكان إلا بالإسلام.
- أن الشريعة الإسلامية تشبع ما للإنسان من رغبات وحاجيات وغرائز، فهي تغذي الروح والعقل والقلب والجسم والمشاعر والأحاسيس كل بما يريد ويحتاج، وقد راعت في شعائرها وأوامرها طبيعة الإنسان المزدوجة التي تجمع بين الجسد والروح، بين الطبيعة الأرضية والنفخة العلوية، قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك: 14).
- أن الشريعة الإسلامية تراعي حالات الناس المختلفة والمتنقلة من قوة إلى ضعف، ومن صحة إلى مرض، ومن إقامة إلى سفر، وتجعل من الرخص ما يتماشى مع هذه الحالات التي يمر بها الناس أجمعين. لذا فقد راعت أصحاب الأعذار، فمن عجز عن شيء سقط عنه، وقد أكدت القواعد الأصولية: أن الله إذا أخذ ما وهب رفع ما وجب. ولهذا وضعت الشريعة الصوم عن الشيخ الكبير، كما أوجبت على الحائض والحامل الفطر، ووضعت عن المسافر تمام الصلاة، وأباحت للمريض الصلاة كيفما استطاع، وأباحت للعاجز عن استعمال الماء استخدام التراب، بل أباحت لفاقد الطهورين أن يصلي بدون طهور، ومن عجز عن استقبال القبلة صلى كيفما تيسر. كما أنها أباحت للمضطر ما حرّمته عليه من قبل، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(المائدة:3). وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف الحرير لحكة في جسمهما. (متفق عليه).
- أن غاية الشريعة تحقيق مصالح الناس، إما بدرء المفاسد أو بجلب المصالح، وما درء المفاسد إلا جلب مصلحة، يقول ابن القيم: إن الشريعة مبناها و أساسها على الحِكَم و مصالح العباد، في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها. وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل. (إعلام الموقعين عن رب العالمين). ويقول أيضا: فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض؛ قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبا للشارع (مفتاح دار السعادة).
- أن القرار المتخذ والحكم المستنبط لا بد من أن يكون محققا لأحد المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية غير مخالف لنص؛ وإلا كانت سياسة ظالمة مرفوضة. وعليه فإن أي قرار يدّعي أصحابه المصلحة لا يعمل به إن خالف نصا، أو ضيع مقصدا من مقاصد الشرع، ومن ذلك إباحة سياحة العري تنشيطا للاقتصاد، أو تعطيل الصيام حفظا للانتاج، أو إباحة الربا طلبا للغنى.
- أن الأصل في الشريعة قيامها على التيسير ورفع الحرج، قال تعالى: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج: 78)، وما الشدة الواردة في بعض أحكامها إلا لعلة طارئة، يقول محمد رشيد رضا في قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}(المائدة: 6): أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية ولا في غيرها أيضًا حرجا ما. أي أدنى ضيق، وأقل مشقة. لأنه تعالى غني عنكم، رؤوف رحيم بكم، فهو لا يشرع إلا ما فيه الخير والنفع لكم (تفسير المنار).
- أن عموم البلوى في أمر ما يقتضي التخفيف في الحكم، وهذا ما عبر عنه الفقهاء والأصوليون بقلهم: المشقة تجلب التيسير، ومعنى هذه القاعدة: أن المشقة تجلب التيسير لأن فيها حرجاً وإحراجاً للمكلف، والحرج مرفوع شرعاً بالنص، وممنوع عن المكلف (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة)، والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة: 185).
- أن الإفراط في السياسة كالتفريط فيها، ولا يقبل من الناظر في السياسة الشرعية هذا أو ذلك، بل لا بد من تحقيق التوسط والاعتدال، فلا يقبل تضييع الحقوق تحت مسمى السياسة، ولا يقبل التهاون والتخاذل تحت مسمى السياسة.
- ليس من وظيفة الفقيه العالم تبرير ما يقوم به السلطان الحاكم؛ بل دور العالم الفقيه هو تنزيل النصوص الشرعية على واقع البشر بما يحقق لهم المصلحة، سواء رضي الحاكم أم سخط، ولله در أبي مسلم الخولاني دخل على معاوية بن أبي سفيان وقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس الأمير يا أبا مسلم ثم قال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير فقال معاوية: دعوا أبا مسلم هو أعلم بما يقول. قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيرا فولاه ماشيته وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها، ووفر جزازها، حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره، وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها، حتى تهلك العجفاء، وتعجف السمينة، ولم يوفر جزازها وألبانها، غضب عليه صاحب الأجر، فعاقبه ولم يعطه الأجر. فقال معاوية: ما شاء الله كان (رواه أبو نعيم).