خيري الأغا.. مقاوماً وقائداً لحماس
بقلم د. محسن محمد صالح
قليلٌ هم الزعماء والرموز الذين يُصرّون على البقاء بعيداً عن الأضواء طيلة حياتهم؛ وقليلة هي الشخصيات التي تحقق منجزات كبيرة، وتحرص أن يبقى ذلك بينها وبين ربِّها. وفي تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر يقف خيري الأغا في مقدمتهم. وفي الذكرى الخامسة لوفاته رحمه الله (1 حزيران/ يونيو 2014) عن عمر يجاوز الثمانين عاماً، نكتب هذه السطور لعلها توفي هذه القامة الكبيرة بعض حقها.
التقيته رحمه الله على مدى يومين في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر 1998، عندما كنت أتابع بحثاً علمياً حول تاريخ التيار الإسلامي الفلسطيني؛ فكان يجيب عن أسئلتي، خصوصاً تلك التي لدي فكرة عامة عن خلفياتها. أما المواضيع التي عرفت لاحقاً أن له دوراً رئيسياً، فيها فلم يتطرق إليها ما دمت لم أسأل عنها.
في هذا المقال المحدود، أختار أربع نقاط للحديث فيها عن ابن خان يونس، الدكتور خيري حافظ عثمان الأغا (أبو أسامة)، القائد الفلسطيني ورجل الأعمال، الحاصل على الدكتوراه في إدارة الأعمال، وعضو جماعة الإخوان المسلمين مذ ريعان شبابه، والذي قضى شطراً كبيراً من حياته في السعودية وتوفي فيها.
النقطة الأولى: دوره المهم في التنظيم العسكري السري الذي أنشأه الإخوان المسلمون في قطاع غزة في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين:
وكان يهدف لاستئناف العمل المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وهو أحد أوائل وأبرز التنظيمات التي نشأت بعد نكبة 1948، والتي لم تأخذ حقها في تاريخ فلسطين الحديث.
اتصلت خيوط التنظيم بكامل الشريف (أحد أبرز قادة الإخوان المسلمين المصريين في حرب 1948)، والذي كان مقيماً في مدينة العريش في سيناء، والذي أوكل له إخوان مصر أيضاً قيادة المقاومة المسلحة ضدّ الإنجليز في قناة السويس. كان معظم أعضاء هذا التنظيم من الشباب ومن طلبة الثانوية والجامعة. وتوزعت قيادته في القطاع على ثلاث مناطق، حيث تولى خيري الأغا قيادة منطقة خان يونس والمنطقة الوسطى، وكان يساعده محمد أبو سردانة، بينما تولى أبو جهاد خليل الوزير قيادة غزة وشمال القطاع، أما رفح وجنوب القطاع فكانت بقيادة محمد يوسف النجار. وكان صلة الوصل بين كامل الشريف وبين هؤلاء؛ هو محمد أبو سيدو الذي كان يعمل “سباكاً” في الجيش المصري في سيناء، وتَسْهُل حركته بين سيناء والقطاع حيث كان ينتقل أسبوعياً بين المنطقتين، وينقل الأوامر والتعليمات لإخوانه في طريق عودته إلى مدينة غزة.
قام هذا التنظيم بعمل عسكري محدود (أشار لبعضه خليل الوزير في كتاباته)، غير أن الإخوان قبل أن يشتد ساعد هذا التنظيم، تلقوا ضربة قاسية من عبد الناصر في سنة 1954، حيث اضطر الإخوان في ظل حملات المطاردة الشرسة والتشويه الإعلامي إلى الانكفاء على الذات. إن هذا التنظيم الذي تفكك لاحقاً، كان مصدراً أساسياً لإنشاء حركة فتح، حيث انضم إليها عدد من أفضل عناصره؛ بينما ظلّ خيري الأغا في صفوف الإخوان الذين تضطرم في نفوسهم الرغبة في الجهاد، ويتوقون لاستئنافه ضمن رؤية إسلامية.
النقطة الثانية: دوره الأساس في تنظيم الإخوان المسلمين الفلسطينيين وإنشاء تنظيم بلاد الشام:
عندما أعاد الإخوان في قطاع غزة ترتيب أنفسهم تحت قيادة شابة، كان ثمة حاجة لربط الإخوان في القطاع مع إخوانهم الذين اغتربوا في البلاد العربية في تنظيم واحد. وفي صيف 1963 (بعض الروايات تتحدث عن صيف 1962) قام خيري الأغا بالترتيب لاجتماع سري في مواصي عيد الأغا في منطقة خان يونس، حضره 15 مندوباً، حيث تقرر إنشاء تنظيم الإخوان الفلسطينيين في البلاد العربية ما عدا الأردن (كانت الضفة الغربية تتبع الأردن)، وتمّ انتخاب خمسة أعضاء برئاسة هاني بسيسو الذي أصبح أول مراقب عام للإخوان الفلسطينيين، بينما كان خيري الأغا، مسؤولاً عن الإخوان في السعودية، وممثلاً لهم في مجلس الشورى. وفي سنة 1973، انتخب خيري الأغا نائباً للمراقب العام عمر أبو جبارة (الذي كان مسؤول الإخوان في الكويت). وعندما توفي أبو جبارة رحمه الله في بداية صيف 1975، تولى الأغا مكانه، وفي اجتماع مجلس الشورى في السنة نفسها، تمّ انتخاب الأغا مراقباً عاماً وسليمان حمد نائباً له.
كان لخيري الأغا دور رئيسي في توحيد تنظيمي الإخوان الفلسطينيين والإخوان الأردنيين في تنظيم واحد، يحمل اسم “بلاد الشام”، حيث لاحظ الأغا وإخوانه مدى التداخل بين التنظيمين خصوصاً في بلاد الاغتراب، ووجود أعداد كبيرة من ذوي الأصول الفلسطينية في تنظيم الأردن، بالإضافة إلى أن كلا التنظيمين يحملان الهمَّ الفلسطيني. طرح خيري الأغا وسليمان حمد الفكرة على اجتماع لمجلس شورى الإخوان في الأردن سنة 1978، فوافق المجلس بالإجماع. وخلال السنة نفسها تمّ حلّ مجلسي الشورى لكلا التنظيمين، وتمّ انتخاب مجلس جديد وقيادة جديدة برئاسة محمد عبد الرحمن خليفة، وانضمت تنظيمات الإخوان الفلسطينيين في قطاع غزة والكويت والسعودية وقطر والإمارات… للتنظيم الجديد. وتنحى الأغا عن القيادة بنفس راضية راغبة بل ومبادِرة، لتُفتح بذلك صفحة جديدة في العمل الإخواني لفلسطين.
النقطة الثالثة: دوره الأساس في إنشاء وقيادة حماس:
سعى خيري الأغا خلال النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين لاستكمال دراسته العليا، حيث تفرَّغ لإنهاء الدكتوراة في الإدارة في الولايات المتحدة. وخلال تلك الفترة، كان العمل لفلسطين تتم متابعته من خلال لجنة متخصصة في تنظيم “بلاد الشام”. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1983 عقد الإخوان في عمَّان مؤتمراً داخلياً لفلسطين، كان من أبرز قراراته إنشاء جهاز خاص أو لجنة للعمل الفلسطيني الإخواني، بحيث يضع الخطط والدراسات، ويتولى تأمين متطلبات الإعداد والاستعداد للعمل المقاوم. وبعد فترة من العمل على إنضاج الفكرة وتطويرها.. تمّ إنشاء “قسم فلسطين” سنة 1985، والذي عرف لاحقاً باسم “جهاز فلسطين”.
وفي تلك الفترة، كان خيري الأغا قد عاد للسعودية بعد أن أنهى الدكتوراة. وتحت الضغط الشديد من إخوانه وافق على قيادة “الجهاز”؛ الذي أخذ يدير العمل الفلسطيني، ويملك صلاحيات واسعة، تحت سقف تنظيم “بلاد الشام”. وقد أسهمت المزايا الشخصية للدكتور الأغا من تحقيق قفزة نوعية في عمل الجهاز، فقد كان يتمتع برؤية بعيدة المدى، وبدينامية عالية، وبإمكانات قيادية كبيرة، وبشبكة علاقات واسعة، وبقدرة متميزة على توظيف الطاقات واستيعابها وخصوصاً الشباب. وكانت إلى جانبه كفاءات قيادية متميزة، من طراز الشيخ الشهيد أحمد ياسين في غزة، وحسن القيق في الضفة، وسليمان حمد في الخارج… وهذا فتح الطريق لاحقاً لإطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بعد أن أعطت قيادة الخارج لقيادة الداخل (المكتب الإداري الذي يدير الضفة والقطاع) الضوء الأخضر، وصلاحية اختيار التوقيت المناسب لإطلاق العمل المقاوم.
كان خيري الأغا يرعى هذا العمل لحظة بلحظة، بعيداً عن الأضواء، وبأقصى درجات السرية التي لم تؤثر على فاعلية العمل وديناميته. ومع انطلاقة حماس في كانون الأول/ ديسمبر 1987، تابع الأغا قيادة العمل، وأصبح أول رئيس لحركة حماس. غير أن الأغا وبسبب إيمانه العميق بضرورة أن يتولى الشباب الراية، وأن يُفسح الكبارُ لهم المجال، قام بعد أن أعاد مجلس الشورى انتخابه 1993 رئيساً للحركة، بالاستعفاء من منصبه، وتسليم موقعه لنائبه في ذلك الوقت موسى أبو مرزوق. بينما ظلّ الأغا يُقدم الدعم والنصح والمشورة لإخوانه بعيداً عن أي منصب تنفيذي.
النقطة الرابعة: دوره الأساس في إنشاء الجامعة الإسلامية بغزة:
يعترف كل من له صلة بإنشاء الجامعة الإسلامية بغزة بأن فضل تأسيسها ووقوفها على أقدامها، وفضل الرعاية المستمرة لها؛ يعود (بعد الله سبحانه) بشكل أساسي لخيري الأغا، الذي كان يؤمن بثنائية “العلم والإيمان”، ودورها المركزي في إنشاء جيل النصر والتحرير. وقد رأس الأغا هيئة المشرفين، وتمكن بما يملك من حنكة وخبرة وعلاقات، من تجاوز الكثير من العقبات. وأعانته علاقاته الجيدة بياسر عرفات، والعديد من قيادات فتح، ورموز ووجهاء القطاع، على تحويل حلم الجامعة إلى واقع عملي، خصوصاً وأن هيئة المؤسسين (هيئة المشرفين لاحقاً كانت أقرب إلى المناصفة بين تيار الإخوان (حماس) وتيار فتح، قبل أن تنسحب فتح منها وتركز على إنشاء جامعة الأزهر). وتابع الأغا رعاية الجامعة بعد إنشائها، وكان من موقعه، كرجل أعمال مقيم في السعودية، ينفق بسخاء على الجامعة، ويوظِّف شبكة علاقاته الإسلامية الواسعة وعلاقاته برجال الأعمال في دعم الجامعة وتغطية احتياجاتها، إلى أن أصبحت أحد أكبر الصروح العلمية في فلسطين المحتلة.
وأخيراً، فلعل هذه الشخصية الفذة تحظى بما تستحقه من دراسات علمية جادة وكتابات، تعطيها حقها ومكانتها في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر؛ بعد أن راعى إخوانه في قيادة حماس رغبته وإصراره على عدم الظهور والبعد عن الأضواء طيلة حياته. رحم الله د. خيري الأغا وأسكنه فسيح جناته.
(المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات نقلاً عن عربي21)