بقلم أ. محمد إلهامي
قياس القوة –بأي مقياس كان- بين العالم السني وبين إيران سيؤول إلى التفوق السني الكبير على إيران، إلا أن ضعف الإرادة والتفرق يجعل مقاييس القوة بلا معنى ولا فائدة، إذ ما قيمة أسد مريض عاجز أمام جرذ نشيط؟!
ولهذا فإن هذه اللحظة تجرنا جراً لإعادة قراءة تاريخ القرامطة قبل ألف ومئة عام، فحينئذ تكرر أن قامت ثلة صغيرة بإرعاب الخلافة العباسية العظمى وإنزال خسائر هائلة بها، مادية ومعنوية حتى صار اسم القرامطة مثيراً للرعب في صدور من ارتعب منهم الشرق والغرب جميعاً!
بعد الهزيمة الشنيعة التي أنزلها القرامطة بجيش يوسف بن أبي الساج، كما ذكرنا في المقال الماضي، ظل القرامطة يعسكرون غرب الفرات أمام الأنبار في حين تتحرك الفرق والسرايا ثم تعود إليه!
أما في بغداد، فقد تولى مؤنس القائد العام لجيش الخلافة العباسي، تجهيز الجيش بنفسه، وما إن جاء الخبر بأن القرامطة قصدوا الأنبار حتى خرج نصر الحاجب أيضاً خلفه، فاجتمع ما معهم من الجيوش فكان أكثر من أربعين ألف جندي بخلاف المتطوعين، وفي الجيش القادة الكبار: مؤنس ونصر الحاجب وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وأخواه أبو السرايا وأبو الوليد، وكان اجتماعهم خارج بغداد بفرسخين على نهر صغير اسمه “زبارا” شرق بغداد، وعلى رغم أن هذا الجيش هو صفوة وخلاصة ما تملكه الدولة العباسية، إلا أنهم كانوا مهتزين أمام القرامطة! ولا أدل على ذلك من نصيحة عبد الله بن حمدان: أن يقطعوا الجسر الذي على هذا النهر لكيلا يصل إليهم القرامطة، أي أن الجيش الذي قوامه أكثر من أربعين ألفاً وعلى رأسه قادة الدولة اختار الدفاع والتحصن بالجغرافيا أمام من لا يبلغون الثلاثة آلاف!!
ورغم ما في خطة عبد الله بن حمدان من دليل على الضعف والجبن إلا أنها كانت حكيمة بالفعل في هذه الظروف، إذ ما إن ظهر القرامطة في الأفق حتى ارتاع كثير من الجنود وهربوا من الجيش فزعاً، ثم إن جندياً من القرامطة عملاقاً أسود أخذ في فحص الجسر لكي يختبر ما إذا كان مقطوعاً أم لا، وهو يُلقى بالسهام ولا يتردد ولا يتراجع ولا يتزحزح حتى انتهى إلى أنه مقطوع وعاد إلى الجيش، وظهره يشبه القنفذ من كثرة السهام، لا شك أن مشهداً كهذا أوقع الرعب في الصفوف المرعوبة أصلاً أضعافاً مضاعفة!
عاد القرامطة أدراجهم إذ لم يجدوا وسيلة لعبور نهر زبارا، وفي تلك الأثناء كان مؤنس قد وجه فرقة من الجيش من ستة آلاف بقيادة يلبق، للهجوم على معسكر القرامطة غرب الفرات وإنقاذ يوسف بن أبي الساج من الأسر، ويبدو أن أبا طاهر القرمطي توقع مثل هذا فلقد عاد مسرعا واستطاع بالقليل الذين معه هزيمة الستة الآف، ثم قتل يوسف بن أبي الساج ومن معه من أسرى معركة الكوفة.
ولما فشلت خطة القرامطة في مهاجمة بغداد، فكر أبو طاهر في الهجوم على هيت (إلى الشمال من الأنبار) ولكن المقتدر كان قد أرسل إليها هارون بن غريب ومعه سعيد بن حمدان، وقد وصلوها قبل القرامطة، فاستطاعوا الدفاع عنها والتحصن بها، وقتلوا من القرامطة جماعة، فعاد القرامطة عنها!
فرح أهل بغداد بعودة القرامطة وزوال الخطر، وأكثروا من الصدقة، وكذلك فعل الخليفة المقتدر بالله وأمه –وكانت من مراكز القوى الحاكمة- والوزير علي بن عيسى، ولكن تبقى الحقيقة القاطعة الساطعة تلك التي قالها المقتدر: “لعن الله نيفاً وثمانين ألفاً يعجزون عن ألفين وسبعمئة”.
عاد جيش مؤنس إلى بغداد (3 المحرم 316هـ) فيما عاد جيش القرامطة يعيث في البلاد فساداً ولا يقف له أحد، ولعل هذا يعطي تصوراً عن فارق ما بين الطائفتين، فهذه طائفة لا تنزع عنها السلاح ولا تقعد عن الحرب، وتلك طائفة إن حاربت كانت دفاعا وإن انتهى الخطر عادت إلى مأمنها!
قضى القرامطة العام التالي (316هـ) في الإفساد ونشر الرعب في الأنحاء، فسار أبو طاهر القرمطي نحو “الدالية” فهرب منها أهلها فقتل من أدركه منهم، ثم وصل إلى “الرحبة” فقاتل أهلها فهزمهم ونفذ مذبحة في الباقين منهم حين اقتحمها (8 المحرم 316هـ)، ثم راسله أهل “قرقيسيا” يطلبون الأمان فاشترط عليهم الحبس داخل البيوت (أي: حظر التجول) فاستجابوا، وبعث بالسرايا إلى مضارب الأعراب في الجزيرة الفراتية فنهبوا أموالهم وأمتعتهم فخاف الأعراب وارتعبوا وهربوا من أمامه ثم اشترط عليهم جزية سنوية يوصلونها إليه في عاصمته “هَجَر”، عن كل رأس ديناراً أو اثنين.
وسار شمالاً حتى الرقة وهاجم نواحيها، فقاتله أهلها باستبسال وصبر عجيب رغم قلة الإمكانيات، فرموهم بما استطاعوا من الماء المغلي والتراب والسهام المسمومة حتى قتلوا منهم مئة قرمطي، ولم يستطع القرامطة المكوث أكثر من ثلاثة أيام واستبان عجزهم عن المدينة، فانصرفوا (30 ربيع الآخر 316هـ)، وخرجوا مغلوبين مقهورين.. وهنا يتبدى لنا أن من اختاروا المقاومة وصبروا عليها كانوا هم الغالبين، فيما لم يكن مصير من اختار الاستسلام إلا الذل والخذلان.
فبرغم ما فعلته الرقة، المدينة الصغيرة، إلا أن من حولها من الأنحاء لم تقتدِ بفعلها، وهكذا سار القرامطة ينشرون الرعب في المدن والأنحاء فطلب أهلها الأمان في رأس عين وكفرتوثا وسنجار، وهم ينهبون ما يستطيعون، ثم أعادوا الإغارة على هيت لكن أهلها كانوا قد أحكموا التحصن فقاتلوهم فلم يستطع القرامطة اقتحامها، فعادوا مرة أخرى إلى الكوفة فأفسدوا فيها وقتلوا جماعة قبل أن يعودوا إلى أراضيهم بعد عام من المعارك والقتل حتى لم يقف لهم شيء، اللهم إلا مقاومات باسلة ضعيفة في بعض المدن.
لم يكن أبو طاهر القرمطي يستطيع أن يحتفظ بالكوفة وهي المدينة الكبيرة مع قلة عدد جيشه، فلهذا اعتمد على شن الحروب الخاطفة وأخذ الأموال والأمتعة التي يتقوى بها، وربما يكون الهدف الأصيل أن يتقوى بالأموال والعتاد دون أن يحتفظ بها لئلا يصير في قلب العدو ووسط دياره.
وطوال هذا العام (316هـ) ما كان جيش الخلافة يصل إلى مكان إلا بعد أن يفرغ منه القرامطة، فقد خرج مؤنس إلى الرقة وسار عبر الموصل، ولما وصل الرقة كان القرامطة قد انصرفوا عنها، وحين قصد القرامطة الكوفة خرج إليهم جيش بقيادة نصر الحاجب لكنه مرض ومات في الطريق (أواخر رمضان 316هـ) فقاد الجيش أحمد بن كيغلغ ولم يصل الكوفة إلا بعد أن غادرها القرامطة، فعاد الجيش إلى بغداد (22 شوال 316هـ).
كان من أسوأ ما ترتب على هذا أن ظهرت خلايا نائمة للقرامطة في سواد واسط وفي عين التمر، وكثرت أعدادهم حتى بلغ الذين في سواد واسط عشرة آلاف، وكانوا يشنون الغارات على القرى والأنحاء فيقتلون وينهبون، بل وهزموا بني بن نفيس أمير الحرب في واسط، فسارعت الخلافة بإرسال جيشين لكل جهة، فانتصروا، وقتلوا من القرامطة أكثر ممن أسروهم منهم، ودخلوا بهم بغداد، فاشتد فرح الناس بعد أن طال عليهم زمن الهزائم، واختفى من بقي من القرامطة في منطقة السواد.
وهذا درس بليغ يشرح كيف تظهر الخلايا النائمة في وقت الهزيمة والضعف وكيف تختفي إذا حصحص الحق وكانت له قوة تقوم له!
وحين رجع أبو طاهر القرمطي إلى عاصمته في هجر أعلن ولاءه للخليفة العبيدي (الفاطمي) المهدي، الذي كان مُلْكُه قد تأسس في الشمال الإفريقي واتخذ عاصمته “المهدية”، وتلقب بالخلافة، فصار للدولة العبيدية ذراع قوي مكين في شرق الجزيرة العربية تؤرق الخلافة العباسية وتنزل بها الهزائم والويلات.
ثم زاد الطين بلة أن اضطربت أحوال الخلافة عام (317هـ) وجرى انقلاب عسكري على الخليفة المقتدر، ثم فشل بفضل حرس القصر وعدم اتفاق العسكريين الانقلابيين على سبيل واضح، واضطرابهم في بعض الخطوات، ففشل الانقلاب من بعد ما تم تنصيب القاهر أخي المقتدر خليفة، وعاد المقتدر من جديد، بعد أيام عصيبة اضطرب فيها أمر الخلافة، وكانت سهام القادة العسكريين على بعضهم البعض لا على عدوهم.
فكان هذا العام هو أضعف ما مر بالخلافة العباسية منذ نحو السبعين سنة، ولهذا لم يفلته أبو طاهر القرمطي المجرم لعنه الله، بل ارتكب فيه جريمة لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الإسلام!
(المصدر: الخليج أونلاين)