مقالاتمقالات مختارة

خطوات عملية لإحداث التغيير بالقرآن

خطوات عملية لإحداث التغيير بالقرآن

بقلم معتصم علي

إنَّ كثيرًا من المسلمين اليوم يشتكي عدم وجود تغيير حقيقي في حياته، أو أثر ملموس في نفسه بالقرآن، بالرّغم من تمسكه به، ومداومته على تلاوته وحفظه، وهو لا يكاد يجد طريقة أو آلية ممكنة إلّا جَرّبها، دون جدوى!

فما العمل وكيف السبيل إلى إحداث تغيير بالقرآن، تزدهر به حياتنا، ونتذوق من خلاله نعيمي الدنيا والآخرة؟

أولًا: وقبل أن نسرد مقترحنا لحدوث هذا التغيير علينا أن، نُعرّج سريعًا حول جملةٍ من الأمور المهمة، التي ينبغي أن نُقرّها ونُسَلّم بها، حتى تصح لنا الرؤية، ويستقيم لنا الاتجاه:

  • التغيير بالقرآن هو رحلة حياة، يلزمها الجد والاجتهاد، والكد والبذل، والصبر والمثابرة، حتى نستطيع جني ثماره.
  • لا توجد طريقة واحدة أو وصفة سحرية مُجرّبة، يمكنها إحداث التغيير مع كافة البشر، فكما نحن مختلفون في بصمات الأصابع، فإن تلقينا لهذا الكتاب وآياته مختلف كذلك.
  • يجب علينا الإيمان التام، الذي لا يحمل مثقال ذرةٍ من شك، في أنَّ هذا القرآن هو السبيل الوحيد لإحداث هذا التغيير القويم، والنهج السليم الذي نبتغيه لنفوسنا وحياتنا (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
  • لا يوجد أصلح أو أنفع من هذا المنهج الرباني لإحداث التغيير في نفوسنا وحياتنا، فنحن من صُنع الله الذي هو أعلم بنا، وبنفوسنا وأحوالنا (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) والمحيط بكل ما يتعلق بنا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

فإذا ما أقررنا بذلك، وسَلمنّا به، صارت كل محاولة أو طريقة مُتّبعة، لإحداث التغيير والتأثر بالقرآن، هي جزء من تلك الرحلة المباركة الطيبة، التي حتمًا ستخلف لنا أثرًا يضيء لنا الطريق.

وسوف نقدم لك إحدى تلك الطرق العملية الشاملة، التي بتطبيقك لها، أو استرشادك بمحاورها الأساسية، ستكون عونًا لك بإذن الله في إحداث هذا التغيير المنشود.

ثانيًا: ينبغي أن تدرك وتعي أن تصورنا عن التغيير بالقرآن الذي نقدمه لك في هذا الطرح من الخطوات العملية، لا يستلزم منك البتة التزامك بكل ما ورد فيه من معاجم، وكتب، وتفاسير، إذ يكفيك منها قبل كل جلسة من مجالس القرآن أن تختار إحداها أو بعضًا منها بما يناسب مستواك للتحضير المعلوماتي، ويليه التحضير النفسي، ثم باقي الخطوات كما سنوردها تفصيلًا، وكن على يقين بأن هذا القرآن فضل من الله يفتح به على من يشاء من عباده (ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ).

خطوات عملية لإحداث التغيير بالقرآن

خطوات عملية لإحداث التغيير بالقرآن 1

إن التغيير بالقرآن، والتأثر به، يتطلب منا أن نسير على محورين متشابكين معًا، ومتكاملين، لا يغني أحدهما عن الآخر؛ وهما:

المحور الأول: أدوات فهم القرآن

يبحث هذا المحور حول الأدوات التي ينبغي عليك امتلاكها، والمعلومات التي تتطلب حصولك عليها أولًا حتى يمكنك فهم القرآن، إذ كيف تريد لهذا القرآن أن يُغيّرك وأنت لا تفهم معظم كلامه وخطابه على النحو الصحيح؟!

ويأتي هذا المحور في ثلاث جوانب مختلفة:

الجانب الأول: فهم اللغة

لكي تفهم لغة القرآن فإن ذلك يتطلب منك ثلاث مراحل:

أولًا: فهم المفردات: وأبنيتها المختلفة، من خلال معرفة معنى المفردة، وأصلها، والجذر اللغوي لها؛ من خلال معاجم اللغة المختلفة، ويمكنك أيضًا الاستعانة في ذلك بالكتب التالية:

ثم معرفة الصيغ المختلفة التي وردت فيها المفردة، ويمكنك الاستعانة في ذلك بالكتب التالية:

ثم معرفة حروف الجر ودلالاتها المختلفة، ويمكنك الاستعانة في ذلك بكتاب: من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم لمحمد أمين الخضري.

ثانيًا: فهم التراكيب: للجمل القرآنية، كي تفهم لماذا رُكبت على هذا النحو؛ وأنت بذلك في حاجة إلى فهم علوم البلاغة والنحو، حتى يمكنك تكوين حس بلاغي ولُغوي يمكنك من تذوق تلك التراكيب وفهمها، ويمكنك الاستعانة في ذلك بالكتب التالية:

  • أسرار البلاغة للجرجاني.
  • جميع كتب الدكتور محمد أبو موسى ولا سيما منها: خصائص التراكيب، والتصوير البياني، ودلالات التراكيب، ومن أسرار التعبير القرآني.

ثالثًا: فهم السياق العام: المجمل للآيات، مع مراعاة علم القراءات، مستعينًا في ذلك بكتب التفاسير المختلفة التي سوف نسردها في جانب (التعامل مع التفاسير).

 الجانب الثاني: تقفي الآثار

والمقصود به تقفي آثار السلف في تلقيهم وتعاملهم مع النص القرآني، وكيف قاموا بتحليله وتفسيره، والتعرض لأسباب نزوله، وما إلى ذلك، والهدف منه أن تدرك وتستوعب بشكلٍ جيد الآتي:

1- معرفة وفهم المدارس التفسيرية المختلفة للقرآن مثل: المدرسة المكيّة، والبَصْريّة، والكوفية، والشاميّة، وغيرها من المدارس التي تُعينك على الفهم وأنت تقرأ في أي تفسير، ويمكنك الاستعانة في ذلك بكتب:

2- معرفة المصادر: الأساسية للحصول على تلك الآثار، سواء الكتب التي أوردتها كما هي دون أي تدخل، مثل: تفسير بن أبي حاتم، والدر المنثور في التفسير المأثور للإمام السيوطي، أو الكتب التي أوردت الآثار مع بعض التوجيهات والترجيحات والتعقيبات حولها، مثل تفسير الطبري، والبغوي، وبن كثير.

3- معرفة أسانيد التفسير، ويمكنك الاستعانة في ذلك بكتاب: التقرير في تفسير الأسانيد للطريفي.

4- معرفة مجال العمل: حيث أن السلف قد وضعوا لنا ضوابط أساسية لفهم النص القرآني، مع متسع كبير للتعامل معه بما يقتضيه العصر الحالي مع الحرص على التوازن بينهما.

ويتضح مجال عمل السلف في بيان مفردات القرآن، والسياق العام للتراكيب القرآنية، وأسباب النزول، والاستنباط وغيرها، ويمكنك الاستعانة في ذلك بكتاب: المحرر في تفسير أسباب النزول للدكتور خالد المزيني.

5- معرفة أسباب النزول: حتى تستطيع إدراك وفهم الجو العام الذي نزلت فيها تلك الآيات، مما يعزز استيعابك لها واستحضارها بداخلك، فتعيشها كما ينبغي أن يكون، ومن أفضل الكتب في ذلك، هو الكتاب السابق، حيث أنّه يتناول فقه أسباب النزول، وليس مجرد سرد للأسباب فحسب.

6- معرفة قواعد ومفاهيم أساسية للتفسير: مثل الاستنباط، والقياس، والتحديد، والانفراد، والاسقاط على الواقع، والنقل، والتأمل، وغيرها، وذلك من خلال الاطلاع على كيفية استخدام السلف والمفسرين لتلك الأدوات حتى تفهم آلية عملها وطبيعتها، فيتسع لديك الأفق وأنت تتلقى النص القرآني، وتستطيع تفعيل النص القرآني في حياتك، مستفيدًا بتلك الآثار الواردة للسلف.

الجانب الثالث: التعامل مع التفاسير

في هذا الجانب ينبغي أن تقوم بإعداد خارطة تفاسير خاصة بك، يمكنك التعامل معها بشكلٍ فعال ومثمر، ويسهل عليك الوصول إلى ما تريده منها لتفسير سورة أو آية معينة في أي وقت تشاء، وننصحك بالتركيز على الآتي:

  • تقسيمها إلى كتب اهتمت بورود الآثار فقط، وكتب اهتمت بتحليل تلك الآثار الواردة، وأخرى اهتمت بالجانب اللغوي والبلاغي للقرآن.
  • الاهتمام الواسع بمعايشة تفسير الطبري، لمعرفة وفهم وإدراك كيف تعامل المفسرون مع الآيات، ومنهجياتهم المختلفة في ذلك.
  • الاهتمام بالاطلاع على التفاسير البلاغية، ولا سيما منها: تفسير الزمخشري، والبقاعي، وأبو السعود.
  • الاهتمام بتفاسير المتأخرين أو المعاصرين، لأنها تتضمن كثيرًا مما نعايشه في الواقع الحالي مثل: تفاسير المراغي، والظلال، والقاسمي، والشوكاني، والألوسي، والدرر المنثور للسيوطي، والتفسير القرآني للقرآن، و معارج التفكر ودقائق التدبر لحبنكة الميداني.
  • قم بالتركيز على تلقي التفسير الإجمالي أولًا للسور والآيات، ثم التفسير التحليلي لها، ثم التفسير الموضوعي الذي يتناول موضوعات بعينها من القرآن الكريم.

المحور الثاني: معايشة القرآن

خطوات عملية لإحداث التغيير بالقرآن 3

يبحث هذا المحور حول سبل ووسائل المعايشة الصحيحة المثمرة للقرآن، حتى تؤتي ثمار التغيير أكلها، ويظهر انعكاساته جليًا في حياتك، ومنها:

1- التعلّم المستمر: سواء للقرآن وعلومه المختلفة، فكما أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: “خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ”، أو للعلوم في مجالات الحياة الأخرى كافة، ويمكنك أن تبدأ بمجال عملك وتبحث عن كيفية تناول وذكر القرآن له.

كما ننصحك أن تقوم على فترات دورية بسماع أو قراءة مادة تتحدث عن قيمة القرآن الكريم في حياتنا، حتى تكسر إلف الاعتياد على القرآن.

2- المدارسة: تُعد مدارسة القرآن حدث كوني هام للتغيير، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، ويتَدَارسُونَه بيْنَهُم، إِلاَّ نَزَلتْ علَيهم السَّكِينَة، وغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَة، وَحَفَّتْهُم الملائِكَةُ، وذَكَرهُمْ اللَّه فيِمنْ عِنده”.

قم بتحديد سورة معينة أو جزء منها لمدارستها في مجالس القرآن، وأنت هنا تحتاج إلى أمرين هامين القيام بالتحضير المعلوماتي، والتحضير النفسي للسورة التي سوف تتدارسها.

3- التحضير المعلوماتي: ويُقصد به أن تقوم بتحضير المعلومات الخاصة بالسورة أو الآيات التي سوف تتدارسها، أو تتلوها، أو تتدبرها، مستعينًا بأدوات فهم القرآن التي أوردناها آنفًا، حتى تستطيع فهم الآيات، واستخلاص الخواص القرآنية المميزة لتلك السورة.

كما يمكنك الاستعانة أيضًا بكتب التفاسير الميسرة التي تعطي معاني سريعة وموجزة لمفردات وجمل القرآن مثل: التفسير الميسر، أو المختصر في التفسير، أو كتاب أيسر التفاسير لأبو بكر الجزائري، أو تفسير الشيخ السعدي، وهم على الترتيب من المستوى البسيط إلى الأكثر تقدمًا.

4- التحضير النفسي: ويُقصد به التفرغ التام ذهنيًا وبدنيًا في الوقت الذي سوف تتفاعل فيه مع القرآن الكريم، اختلي به بعيدًا عن جميع الأفكار والمشاغل والمشتتات التي تصرفك عنه، حتى تستطيع أن تتلقاه بنفسٍ واعية وذهنٍ صافٍ تمامًا، فيقع في قلبك مقصده، ويصيب منك مناله، فتنتفع به حق الانتفاع كما قال ابن القيّم: “إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآن؛ فاجمع قلبكَ عند تلاوته وسماعه، وأَلْقِ سمعَكَ، واحضر حضور مَنْ يخاطبه به مَنْ تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطابٌ منه لك على لسان رسوله؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، وذلك أن تمام التأثير لمَّا كان موقوفًا على مؤثٍّر مقتضٍ، ومَحَلٍّ قابلٍ، وشرطٍ لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، وقد تضمنت الآيةُ بيانَ ذلك كلِّه بأوجز لفظٍ وأَبْيَنِه وأَدَلِّه على المراد.”

5- المشاركة الوجدانية: ويُقصد بها أن تشارك القرآن الكريم في موضوعاته وقضاياه التي عالجها بوجدانك، من خلال القيام بطرح تلك الموضوعات والقضايا على طاولة حياتك، لتنظر أنت في أي موضع منها؟ مع الاستعانة بتمثل وتخيل معايشة القصص والأحداث والمواقف المغايرة والتي لا يتاح لك ان تعيشها حقيقة، حتى تستشعر وتستجلب تلك المشاعر الحقيقية أو القريبة منها التي عايشها أصحابها، فأنت بهذا تقوم بعملية إشباك النص القرآني بواقعك.

وإنَّ ما يساعدك على هذا، هو النزول إلى أرض الواقع والمجتمع، ومواجهة همومه ومشاكله، ولقاء أنماط مختلفة من البشر وسماع تجاربهم في الحياة، وما يعانون، وقراءة كتب التاريخ والتراجم، حتى تتمكن من إسقاط النص القرآني على كل هذا، ثم تقوم بالتحليل والتفنيد فتنتفع منه خير انتفاع، ويمكنك الاستعانة في ذلك بكتب: تنزيل الآيات على الواقع عند المفسرين للدكتور عبد العزيز الضامر، والقرآن وماهية التغيير في النص الديني والإنسان لإدريس حمادي.

6- قيام الليل: وهو من أفضل الوسائل والسبل المُعينة على إحداث التغيير، فإن أقصى استفادة يمكنك الخروج بها من القرآن الكريم، هي مقدار ما خلوت به مع نفسك مُرّتِلًا ومُتدّبرًا، وقد كان هذا هو الإعداد والتهيئة التي اختارها الله -عز وجل- لنبيه قبل تلقيه الرسالة والوحي: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).

7- الترتيل (تلاوةً واستماعًا): فقد نزل القرآن الكريم على الرسول مُرّتلّا ومٌفرّقًا، وقد بين الله تعالى الغرض من ذلك، لتثبيت قلب النبي (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، لذلك فإن الترتيل لهو من أهم الوسائل التي تحقق وتحدث التغيير.

ويكون على شقين لا يغني أحدهما على الآخر، تلاوة القرآن على الوجه الذي ينبغي كما قال الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)، يقول بن مسعود -رضي الله عنه- في بيان حق التلاوة الوارد في الآية: “والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله”.

أمّا الشق الآخر وهو غاية في الأهمية، الاستماع والإنصات للقرآن، وقد كان لسماع القرآن أثار عجيبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين، وكل من (أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-؛ قال: “قَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: اقْرَأْ عَلَيَّ. قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)؛ قَالَ: (أَمْسِكْ). فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ”!

والأمثلة والنماذج للآثار الواردة في تأثير سماع القرآن على الإنس والجن والملائكة لا يحصيها مقام، بل إن الله تعالى قد أخبرنا بحال الجمادات حين سماعها وتلقيها القرآن فقال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

8- التدّبر: إذا ما قمت بتطبيق تلك الخطوات السابقة، فسوف تجد التدبر نتيجة حتمية لها، حيث أنّك قد أعملت عقلك وقلبك معًا في فهم آيات الله، وقمت بإسقاطها على الواقع، فأنت الآن تستطيع أن ترى وتتذوق معاني جديدة ورؤى مختلفة كليًا، لما قبلها، فقد صحح القرآن نظرتك للحياة بمختلف أمورها وشؤونها، ومنحك بصيرة جديدة متقدة ونافذة تفتح لك آفاقًا من الخير والعلم والنور والهداية لا آخر لها.

وحريٌ بنا أن نذكرك بأهمية التوازن بين عملية التدبر من خلال أدوات التفسير التي ذكرناها، وحبس النص القرآني عن التفعيل في الواقع في بعض المواضع، حتى يستقيم الأمر، ولا يُفتح باب التدبر على مصراعيه، من خلال الفهم الذاتي لكثير من الآيات.

9- المرجعية الحياتية: بأن تجعل القرآن الكريم، مرجعيتك الفعلية في كافة شؤون حياتك، وأن تَرُّدَ كل المسائل، أو الخلافات، والمشكلات، وتعرضها عليه (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وتجعله دليلك وبوصلتك التي توجهك في الحياة، حتى تحقق قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

10- أسلوب المقارنة: وهو أسلوب بديع استخدمه القرآن كثيرًا في مواطن عدة، حتى يُصور لك حالين متضادين، أو فريقين مختلفين، حتى تستطيع أن تتفكر وتعمل عقلك فتختار الأفضل والأقوم منهما، فيتغير بذلك سلوكك وسيرك في الحياة وفقًا للصورة الخيرة منهما التي اخترتها لنفسك وتسعى لتحققها، وآي القرآن هي كثيرة في ذلك: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ)، (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ)، (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ).

خطوات عملية لإحداث التغيير بالقرآن 5

مساكن قوم ثمود.

11- السياحة في الأرض للاعتبار: وهي من الأمور الفعالة التي تساعدك على تصحيح الرؤية تجاه هذه الحياة، فأنت عندما تجوب الأرض وتطأ أقدامك مساكن وأماكن قد سكنها غيرك منهم الصالحون، والفاسدون، والمشركون، والظالمون، ثم ها هم جميعًا يواريهم الثرى، تبرز لك حقيقة هذه الدنيا، وتجد صدى الآيات القرآنية يتغلغل في وجدانك (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ)، والله قد حثنا كثيرًا على السير في الأرض للاعتبار، فقال –عز وجل-:(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا).

12- التأمل والتفكر في خلق الله: وهو من الأساليب التي تدعو إلى إحداث تغيير كبير في النفس والقلب، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) فتُزيدك إيمانًا ويقينًا وتثبيتًا، وتُعينك على مشاق الطريق، فإنّه يستحق البذل والتضحية، فإن سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة.

وفي الختام فإن الوسائل والسبل لإحداث تغيير حقيقي وجوهري بالقرآن كثيرة، ومتعددة، وذلك من رحمة الله بعباده، فإن ما يصلح مع هذا قد لا يصلح مع ذاك، ولكن يبقى في النهاية الإجماع على أنَّ سبيل التغيير يحتاج إلى رجال بحق، يشمرون عن سواعدهم كي ينالوا من هذا الخير العظيم، ويجاهدوا أنفسهم كي تتحقق لهم الهداية من الله الكريم (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى