خطر الاستهانة بالمعارك
بقلم أ. محمد إلهامي
في مؤتمر علمي شاركت فيه في إسطنبول، لاحظت غياب الترجمة، رغم أن الأوراق العلمية التي يحتويها المؤتمر باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والتركية، وفي مثل هذه المؤتمرات لا بد من وجود الترجمة بطبيعة الحال. سألتُ عن سر هذا فعلمتُ أن بلدية اسطنبول امتنعت عن تمويل المؤتمر من بعد ما أُبرم الاتفاق بينها وبين الجامعة أو أنها قَلَّصَت التمويل المتفق عليه كثيراً، فأثَّر هذا على كل شيء، على عدد المدعوين من خارج تركيا، وعلى اتساع المكان، وعلى التجهيزات، إلا أن أغلب هذا لم ينتبه له المشاركون –إذ هم لا يعرفون الوضع الذي كان منشوداً ثم تقلص- وإنما كانت مسألة الترجمة لضرورتها هي ما أثارت الانتباه.
تغير الوضع في إسطنبول منذ فاز برئاسة البلدية الكبرى مرشح حزب الشعب الجمهوري، وصارت البلدية تمول فعاليات أخرى، منها حفلات راقصة في مناسبات علمانية، وفي المقابل تقلص أو انتهى التمويل الذي كان يذهب للفعاليات العلمية خصوصاً الإسلامية والعثمانية، واتسع نشاط التضييق على اللاجئين والمهاجرين في تركيا وإغلاق منشآتهم الاقتصادية والتجارية وشروط إقامتهم وتنقلاتهم، وغير ذلك مما بعضه معروف وأكثره لا يعرف!
تذكرت في هذه اللحظة منشور شيخ معمم لاجئ في تركيا، كتب عند لحظة فوز مرشح الحزب الجمهوري، ينعي على المنفعلين حزنهم وحماستهم، مؤكداً أنها مجرد جولة انتخابية كغيرها، ولن ينهدّ الكون.. هكذا ظنَّ نفسه عقلانياً ناضجاً واعياً مفارقاً لعاطفة العامة والغوغاء.
وتذكرت معها أيام الانقلاب العسكري في مصر، حيث كانت شريحة من أولئك الناضجين الواعين الحكماء يرون أن المسألة مجرد صراع سياسي، ونزاع على الكراسي، فلا فوز مرسي مكسب عظيم ولا انقلاب السيسي خطر داهم. وكنا حين نحذر من خطورة هذا وكارثيته ينظرون إلينا كما ينظرون إلى المجنون المهووس المتعصب المنغلق المتشائم!
والآن جميع الناس يرون إلى أين صارت مصر وأحوالها، وكيف كان انقلاب العسكر فيها نكبة وطعنة للأمة كلها لا لمصر وحدها، وليست النكبة نكبةً سياسية أو عسكرية، بل أخطر منها ما جرَّته من النكبة الدينية والاجتماعية، وهذه الموجة الهائلة من الإلحاد والإباحية وضياع الدين ونشأة جيل جاهل بمبادئ الدين متحلل من مبادئ الأخلاق.
إن المعارك التي تجري في بلادنا، ليست مجرد نزاعات دنيوية محدودة، بل تكاد كلها أن تكون ذات ارتباط وثيق بالدين والهوية.. هذا ما يجب أن نعلمه جيداً ونستوعبه جداً ونهضمه تماماً! إنها معاركٌ يكون النصر فيها فتحا والهزيمة فيها نكبة، النصر فيها سبيل إلى الإيمان والهزيمة فيها باب إلى الكفر.. بما في ذلك المعارك الانتخابية، فبها تنفق أموال الأمة ومواردها في صالح الأمة أو ضد مصالحها، وبها يُفسح للإسلام ويُمَكَّن له أو يُفسَح للكفر ويُمَكَّن له.
وفي زمن الاستضعاف العام الذي نحن فيه، فإن كل نصر وكل فتح هو إنقاذ لملايين المسلمين، مثلما أن كل هزيمة وكل نكبة هي إهلاك لملايين المسلمين، فأثر النصر في زماننا وحالنا مُضَاعَف، كما أن أثر الهزيمة في زماننا مُضاعَف!
وانظر وتأمل وقارن بنفسك وانظر في أحوال المسلمين ترى هذا واضحاً..
فخلال الشهر الماضي أفرج الجهاز الأمني لحماس في غزة عن عمليات أمنية معقدة نفذها بكفاءة، حتى أسقط –وكاد يأسر- مجموعة من نخبة النخبة الإسرائيلية التي دخلت في مهمة متقنة محسوبة لزرع أجهزة تتمكن بها من اختراق شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة. لقد فشلت محاولات إسرائيل السابقة من خلال العملاء في هذه المهمة حتى لم يعد أمامها إلا أن تلقي بنخبة النخبة من عناصرها في موضع الخطر، ثم لم ينجحوا، وكانت إسرائيل من قبل هذا مرتاحة البال هانئة، ويتولى هذه المهمات نيابة عنها سلطة فتح وعناصرها الأمنية، ففي ظل سيطرة فتح كان إنشاء شبكة اتصالات خاصة بالمقاومة شيئا فوق الخيال والتصور، بل كان الرجل من أبناء المقاومة يخشى على نفسه الاعتقال والتعذيب فتؤخذ منه كل المعلومات وأدقها عن كل ما يعرف ثم تُعطى في تقرير وافٍ لإسرائيل!
وخلال هذا الشهر الماضي نفسه تطورت الأحوال في ليبيا كثيراً، فدخلت تركيا على خط دعم حكومة الوفاق الليبية، وهذا أمرٌ أقلُّه وحدُّه الأدنى أن يؤجل انهيار طرابلس في يد حفتر إلى أمدٍ، ولعله تتغير الأحوال في هذا الأمد، وأحسن أحوال هذا الدعم التركي أن ينهار أمامه حفتر ومشروعه، وهذا مكسب ضخم، وإن كان بعيد المنال، وبين ذلك الأدنى والأقصى احتمالات كثيرة نسأل الله أن ينجي الأمة من شرِّها.
ولا يمكن فهم ضخامة الإنجاز في هذين المثالين إلا إذا تصوَّرنا ماذا كان يمكن أن يكون لو أن حماس لم تخض الانتخابات في 2006 ولم تأخذ قرار الحسم العسكري في 2007، وبقيت غزة مثل الضفة الغربية تحت سلطة فتح. أو إذا تصورنا أن أردوغان لم يخض هذه التجربة السياسية ولم يدعمها ببناء قوة ذاتية وعناصر مسلحة تتصدى للانقلاب العسكري وتؤمنه من محاولات الاغتيال!
وأولئك الذين يطعنون في هذين التجربتين، مع احترامي لبعض دوافعهم وتقديري لبعض مشاعرهم، أشبه بأولئك الذين لم يتصوروا فارقاً كثيراً بين مرسي والسيسي، ولم يعرفوا أن مرسي وجماعته –مع كل ما يؤخذ عليهم- إنما كانوا دِرْءًا وجُنَّة من أمثال السيسي. ولعلهم يعرفون هذا الفارق إذا -لا قَدَّرَ الله- ضربت تجربة حماس في غزة أو تجربة أردوغان في تركيا.
ولماذا ننتظر أن يحدث ما لم يحدث؟ يكفي أن نمد أعيننا إلى أرض مسلمة تخلو من مثل هذه التجارب، لننظر في تركستان الشرقية وفي بورما وفي الهند (لا سيما: كشمير وولاية آسام)، فضلاً عما يجري في مصر والشام والعراق والشرق الليبي، ثم ما يجري في الخليج وأرض الحرمين واليمن.. في سائر هذه المناطق لا يجد العدو مانعاً في ذبح المسلمين وإذلالهم وقهرهم وتغيير دينهم وعقيدتهم وطردهم من بلادهم وسبي نسائهم وأولادهم وسجن علمائهم وشيوخهم.
ومن كان يتخيل أن أرض الحرمين تتحول إلى مسرح عابث كبير، وتنفجر فيها مظاهر الفجور بهذه الفجاجة؟! حتى إن الشيخ المنافق الذي يعبد ولي الأمر من دون الله يوقف عن الخطابة والتدريس لأنه مسَّ هيئة الترفيه، وهي الهيئة التي تتولى ملف نشر الانحلال والخلاعة في جوار بيت الله الحرام!
الشاهد المقصود أن المعارك التي تجري في بلادنا، بما فيها المعارك الانتخابية، والثقافية فضلاً عن المعارك السياسية والعسكرية ليست مجرد نزاعات محدودة، إنما هي عميقة التأثير والنتائج، والداعية الذي يجلس في بيته أو مسجده ويعزل نفسه عن هذا كله هو في الحقيقة يُغمض عينيه ويُسكت ضميره لأنه ليس في معزل ولا يملك أن يكون بمعزل، فكل الذي يجري هذا إنما يؤثر فيه وعليه وعلى بيئته وعلى جمهوره، والكلام الذي كان يستطيع أن يقوله بالأمس تصريحاً سيقوله اليوم تلميحاً ثم سيكتمه غداً، وبعد غد سيقول بعكسه اضطراراً وخوفاً ثم يطول به الأمد فيقوله إيماناً به واعتناقاً له، وإذا استمر هذا الحال فسيأتي جيل إذا سمع الإسلام قال “ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين”!
وفي الأيام الماضية اشتعل بين المصريين جدالٌ على فتاة كانت مسلمة ثم ألحدت ثم ماتت، فتعاطف معها أقوامٌ ترحموا عليها وأقاموا لها صلاة جنازة وجادلوا عنها جدالاً عنيفاً ليجعلوا الترحم عليها حقاً أو واجباً.. فانظر كيف ضاعت ثوابت الدين وحلَّت مكانها تصوراتٌ أخرى يظن أصحابها أنها من الدين! واتساع هذه الظاهرة وتفشيها هو أثر من آثار الانقلاب العسكري في مصر وما جرَّه من النكبات على التصورات وعلى النفوس، وما زلزله من الإيمان بالدين.
إن النصر يرفع من شأن أصحابه، ولا شيء أكثر ترويجا لفكرة ما من انتصارها في المعركة، ولهذا قيل بحق “الناس على دين ملوكهم”، وقال عثمان: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، وهذا المعنى في كتاب ربنا (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا)، فالنصر يفتح العقول والقلوب للفكرة، وهذه سيرة الدنيا والناس وانتشار الأفكار.
وإن الحمل الثقيل الذي تحمله الأمة اليوم إنما هو حمل الهزائم، فالمعارك التي هُزِمنا فيها، والمعارك التي استهان آباؤنا وأجدادنا بها، والمعارك التي نكصوا عنها انشغالاً بغيرها.. كل هذا صار هو الميراث الثقيل الذي نواجهه اليوم. وإن سيرتنا مثل سيرتهم، فالمعارك التي لن نخوضها أو التي سنستهين بها أو التي سنُهزم فيها هي التي سنرى نتائجها المريرة في أنفسنا وأبنائنا، ثم ستكون عبئاً يزداد ثقله على الأجيال التالية.
سيقرأ القارئ هذه السطور في ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير 1492م)، وساعتها سينظر في أمتنا بعد تراكم الأثقال وتراكم الهزائم ليرى كل الأرض الإسلامية أندلساً جديدة، وهكذا: بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء!
يقول ابن القيم:
” لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده. ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم عند الله قدرا.
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} [الفرقان: 51، 52] ، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام، قال تعالى: {ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التوبة: 73]، فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا. ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- من ذلك أكمل الجهاد وأتمه”.
(المصدر: مجلة كلمة حق)