مقالات

حُبُّ الحياة

بقلم عبدالرحمن بن صالح العشماوي

لما حضرت الوفاة معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكنْ كنتُ أحبُّ البقاء لمكابدة الليل الطويل ولظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حِلَقِ الذكر.

ويقول أبو قتادة رضي الله عنه: بابٌ من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بعده أفضل من عبادة حَوْل. ويقول الشافعي: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نَبُلَ قَدْره، ومن نظر في اللغة رقَّ طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجتُه، ومن لم يَصُنْ نفسه لم ينفعه علمه.

وقال عسَّال بن صفوان المراد رضي الله عنه: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على بُرْدٍ له أحمر، فقلت له يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: مرحباً بطالب العلم، إنَّ طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب.

أما ابن الجوزي – رحمه الله – فيحدَّد لنا موضوع الرغبة في الحياة للاستزادة من العلم ولنفع الناس في كلام ظريف لطيف كعادته قائلاً: دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأَطِلْ عمري حتى أبلغ من ذلك ما أحب، فعارضني وسواس من إبليس قائلاً: ثم ماذا؟ أليس بعد ذلك الموت، فما الفائدة من طول الحياة والرغبة فيه؟ فقلت لهذا الوسواس: يا أَبْلَه، لو فهمت ما تحت سؤالي لعلمت أنه ليس بعبث، أليس في كل يوم تزيد معرفتي وعلمي، فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم الحصاد، أفيسرُّني أنني متُّ منذ عشرين عاماً، لا والله لأني ما كنت أعرف الله حينه عُشْرَ معرفتي به اليوم.

وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علومٍ، زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويَتْ تجارتي في إنقاذ المباضعين من المتعلمين، وقد قال الله سبحانه وتعالى لسيد المرسلين {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزيد المؤمن من عمره إلاَّ خيراً)، وعن جابر بن عبدالله – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة)، ولو قدرت على عمر نوحٍ عليه السلام لفعلت، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه للإنسان شيء رَفَع ونَفَع.

وأقول: ما أَلْطَف الإمام ابن الجوزي وما أظرفه وما أفقهه!! نحن – أيها الأحبة القراء- أمام كلام واضح في فهم الحياة الدنيا على حقيقتها، يؤكد لنا عظمة ديننا الحنيف، وعمق فهم السلف الصالح له فَهْماً أبعدهم عن الغلوِّ والتفريط، وجعلهم يعيشون الحياة الدنيا عيشةً رضيِّةً هنيَّةً بعيدةً عن التعقيد وسوء التصرُّف، ولو أخذنا مقولة معاذ بن جبل رضي الله عنه مخاطباً ربَّه وهو على فراش الموت لرأينا الوضوح في التعامل مع الدنيا، فهو لا تملك قلبه، ولا تغريه مباهجها، ولا تطغيه لذائذها، وهو مع ذلك قد تولَّى المناصب، وسعى فيها باتِّزان، وطلب منها ما يعيش به عيشة الكرماء، ولم يزهد فيها زهد المتقوقعين الضعفاء.

كل نصٍ من النصوص السابقة يقول لنا: عيشوا الحياة معيشة من يبنيها على الخير.

هنا، لبس التاريخ بُرْدةَ عِزِّنا 

وكان له صِيْتٌ – وما زال – ذائعُ

المصدر: تواصل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى