حين يغيب الفقه.. يحضر العلماء المنافقون!
بقلم محمد عمر أحمد
لعلك تساءلت يوماً ما الذي يتفاضل به العلماء، ويكون لكلمة بعضهم نفاذ في العقول والقلوب، ولمؤلفاتهم خلود يخترق حجب الزمان، والمكان؟ وهل مرد ذلك هو تفاوتهم في إدراكهم لقواعد الفنون التي يبرعون فيها؟ أم أن ثمة جوانب أخرى ينبع منه هذا التأثير؟ لا جرم أن الاتقان المعلوماتي أو ما نسميه قوة الأداء في أي فن من الفنون العلمية كالفقه أو التفسير عنصر مهم من عناصر تفوق العالم، ولكنه عند التحقيق والتدقيق لا تعدو مجرد ملكة ودربة لاستحضار لألفاظ أو استظهارا لضوابط وقواعد للتفسير والترجيح وهي أمور يتيسر حفظها لكل من يمتلك الاستعداد الذهني.
وهذا شأنه هين يسير، فيمكن للمنافق والفاجر وفاقد البصيرة أن يكون حافظاً حائزاً لناصية دقائق الفنون، قادراً على توليد المسائل، والمجادلة بها. ولكنه يبقى متخبطاً في المقاصد وفي الأولويات، وفي توظيف العلم لخدمة الإنسان وإصلاح العالم.
ولهذا بات جلياً أن ما يتفاضل به العلماء، ويعظم به تأثيرهم شيء آخر غير حفظ المتون والقواعد، وهو (علم الإيمان)، أو ما نسميه (الفقه الأكبر) ومتعلقاته. بهذا الفقه يضع العالم حداً فاصلاً بين مركز الخالق والمخلوق، ويتعرف على وظيفة الإنسان في هذا الكون، ويفهم طبيعته والغاية من خلقه، والسنن الحاكمة لنشاطه. ويدرك كذلك معاني الحياة والابتلاء والصراع وتشابكها، ويربط بقوة خيوط الماضي والحاضر والمستقبل، ويتمعن بعمق فلسفة الأمم من الحياة، وتقاطع أهدافها تبعاً لتباين إجاباتهم عن الأسئلة الكبرى، مما يضمن استمرار الصراع على ظهر البسيطة، ووجود الخلاف والاختلاف قدراً.
لا جرم أن العالم حقا ب (الفقه الأكبر) يقتدر الإجابة عن أسئلة عميقة ذات صلة بالوجود وبالإنسان وبقيمته وتكريمه والغاية من خلقه، كل تلك المعرفة (الفلسفية) تفتح له آفاقاً في فهم الحياة ومراميها وتفسير أحداثها والحصول على مفاتيح أسرار الوجود والبقاء. من خلال هذا الفهم العميق للحياة وغايتها لا يبقى الفقيه مجرد وعاء أو (روبوت) محشو بالألفاظ يملك لساناً يعبر به، بل إن دور الفقيه يمتد ليشمل تحديد الأهداف والمقاصد والأولويات المعرفية للأمة، فلا يسلم لكل قديم بل ينقد الأهداف والغايات السابقة، ويعيد تقويم المناهج فيحذف الفضلات ويستبعد ما هو من الأغلوطات، وكل ما لا ينتج عملاً سديداً، متوخيا صلاح الإنسان وتكريمه، واضعاً بصمات تأثيره ليس على المسائل العلمية فقط بل يمتد إلى جنبات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالإصلاح والتجديد.
إن علوم الايمان – أو الفلسفة كما هو شائع – والمتركزة على البحوث الغيبية (الميتافيزقيا) هي العلم الحقيقي الذي تخدم له بقية العلوم، ومنها تستمد رؤيتها وفاعليتها وتأثيرها، فإذا كلت بصيرة القادة الدينيين للأمة لحقها من النقص بقدر نقصهم في إدراكها. إن التجديد والاصلاح اللذين ننشدهما في حياة الأمة لا يمكن أن ينشأ تلقائياً من الفنون محل الدراسة ذاتها، بل من إحداث إصلاح في معرفة الإنسان لخالق الكون، ومن نظرة الإنسان إلى ذاته، ونظرته إلى أخيه الإنسان، وفهمه للغاية من الحياة، ولدوره كمخلوق حائز لوسام التكريم الإلهي، وفهمه للإصلاح ومقتضياته وشروطه.
إن توظيف العلوم الإسلامية للتطرف أو للانزواء والتنازل عن الصراع أصلاً، أو توظيفها للتنافس والمصالح الآنية وإفساد العلاقات الإنسانية، أو المكايدة والاحتيال، والاشتغال بالتفاهات، والاستماتة في التعصب.. كل ذلك مظاهر جلية منشؤها جهل بالله رب العالمين، وغبش في إدراك طبيعة الإنسان، والتباس في إدراك معاني الابتلاء والصراع وخلافة الإنسان في الكون، وطبيعة الانسان، ونحو ذلك.. وهنا تقودنا الاستنتاجات السابقة إلى تأكيد وجود علاقة وطيدة بين تأثير العالِم وخلود كلماته، واستقامة فهمه، وحسن اختياراته في مشكلات بحوثه، ومقاصده في الإفتاء، وبين معرفته بالفقه الأكبر.
وكذلك فإن الفاعلية العلمية إنما تنبع من هذه الجوانب التي أشرنا اليها، وليس من المادة نفسها ومن مفردات مسائلها، فإننا نجد في الواقع شخصين يدرسان فناً معيناً وبينهما بون شاسع في صحة الفهم وسداد البصيرة، وتوظيف العلم للإصلاح لا للفساد. ولذلك فإن الجمع بين فقه الحياة وخالقها، وبين إتقان الصناعة العلمية، هو الذي يؤسس للتكامل والصلاح العلمي، وبقدر ما يتخلف هذان الركنان أو أحدهما تتكدر الرؤية، ويقصر العالم عن التأثير حتى مع تقدمه في استظهار الفنون.
(المصدر: مدونات الجزيرة)