حول فقه الواقع
بقلم د. عصام البشير
لعل أحد أهم الأسباب وراء ازدهار الفقه الإسلامي في عصوره المزدهرة هو قدرة الفقيه على الجمع بين فقه النصوص الشرعية وفقه الأحوال الواقعية ، إذ لا يمكن للفقيه أن يكون فقيهاً بحق حتى يجمع إلى جانب الفقه بالنصوص الفقه بالواقع لا بمعنى أن يكون الواقع حاكماً على النص فذلك مالم يقل به أحد ولكن بمعنى كيفية تطبيق النص على الواقعة وإنزاله عليها وهو ما عبر عنه علماء الأصول بتحقيق المناط وكذلك عبر الاجتهاد السائغ شرعاً فيما لا نص فيه من الوقائع المتجددة .
وإذا كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره فإن الفقه الحق هو الذي يكتسب أحقيته من احتكاكه بواقع الحياة وواقع الناس ، وإن الفقيه بحق هو من يعرف الواقع ولا يجهله
( يلتفت إليه ولا يلتفت عنه ، يعمله ولا يهمله ، يبني عليه ، ولا يبني في فراغ).
قال ابن القيم: ( ولا يتمكن المفتي والحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم أحدهما – ونشير إلى ماله صلة بالموضوع –: فهم الواقع ، والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن ، والأمارات ، والعلامات ، فالعالم يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله في المسألة ) .
وفي موضع آخر قال: (والواجب شيء والواقع شيء والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب ).
أولاً : المراد بفقه الواقع
فقه الواقع مصطلح تعارف على إطلاقه فقهاء الإسلام المعاصرون كأحد أنواع الفقه الأخرى التي يتكلمون عنها مثل : فقه السنن وفقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه المقاصد ويعنون به: ” فهم النوازل والمتغيرات ودراستها دراسة مستفيضة والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية لها عبر منهج فقهي يجمع بين العلم بالشرع ومقاصده والمعرفة بالواقع ومستجداته .
ومن التعريف يتبين لنا الآتي :
1-أن فقه الواقع يواكب تطورات العصر ويعنى بالنوازل والمتغيرات ولا علاقة له بالثوابت من الأحكام مما دلت عليه النصوص .
2-أن فقه الواقع يتجه إلى دراسة النازلة دراسة مستفيضة تلم بكل حيثياتها وملابساتها مما قد يكون له الأثر في استنباط الحكم .
3-أن الغاية من فقه الواقع هو استنباط الأحكام الشرعية لكل حادثة عبر استعمال آلة الاجتهاد وأدواته المعروفة .
4-أنه من الضروري عند الاجتهاد في حكم واقعة معينة من استحضار مقاصد الشريعة الإسلامية مع فهم الواقع والفقه فيه والإحاطة به علما مما قد يكون له الأثر في الحكم.
ثانياً :أهمية فقه الواقع
يكتسب فقه الواقع أهميته من الأمور التالية :
1-إخضاع الجزئيات لمقتضى الشريعة الإسلامية وبيان أنها صالحة لكل زمان ومكان .
2-ضبط مسيرة الفرد والمجتمع والدولة بربطها بأحكام الشرع ومقاصده .
3-التأكيد على مراعاة اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف لدى تكييف الحكم الشرعي .
4-تحقيق الارتباط الوثيق بين الأصل والعصر عبر معادلة مستقرة لا تهز الثوابت لتتغير ولا تجمد الحياة وتوقف تجددها .
ثالثاً : الأصول التشريعية لفقه الواقع
يمكن إرجاع الأصول التشريعية لفقه الواقع إلى ما يأتي :
1- غائية إرسال الرسول وإنزال الكتاب : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ )) سورة يونس الآية : 57((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )) سورة الأنبياء الآية : 107 (( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ))سورة الأعراف الآية : 157 بما تتضمنه هذه الغائية من هداية للناس ورحمة بالعالمين وصلاح لدنياهم ومعايشهم ورفع للتكاليف الشاقة عنهم ترفقاً بهم وتيسيراً لهم .
2- الوفاء بحاجات الناس من خلال ارتباط أحكام القرآن بأسباب نزولها وكيفية تعلقها بالحوادث والنوازل والمستجدات لذا نجد كثيراً من الآيات تبدأ بعبارات مثل (( يسألونك )) أو (( يستفتونك )) .
3- حكمة نزول القرآن منجماً ، والتدرج في تشريع الأحكام ( مثال الخمر ) ومرحلية الدعوة المحمدية ( مثال الجهاد ) كل ذلك مراعاة لواقع التنزيل ووعياً بواقع المسلمين .
4- ربط الأحكام بعللها وبيان وجه المناسبة والحكمة من وراء تشريعها( مثال العبادات من الصلاة والصوم والحج والزكاة وتشريع الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بما تتضمنه تلك العلل والمناسبات والحِكم من جلب منفعة ودرء مفسدة عن العباد عاجلاً و آجلاً .
5- اشتمال النصوص القرآنية على مبادئ كلية دون الخوض في تفصيلاتها تاركة ذلك لمتغيرات الزمن فلا بأس من استحداث صور شتى لتطبيقها دونما حرج (مثال الشورى) .
6-ربط الأحكام في القرآن بقدرة المكلف على الأداء فلا تكليف إلا بمقدور (( لا يكُلف اللهُ نفساً إِلا وسعها)) سورة البقرة الآية : 285 .
7- اعتبار القرآن لحالات الضرورة وهي حالات طارئة في ظروف استثنائية والمعبر عنها بقوله تعالى : ((إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه)) سورة الأنعام الآية : 119 ، مع ما اهتدى إليه الأصوليون من إيجاد نظرية الضرورة الشرعية التي تأخذ بعين الاعتبار إكراهات الواقع على مسار الحكم الشرعي وتكييفه .
8-ما أكدته السنة النبوية من وجوب مراعاة أحوال الناس وأحوال بيئاتهم وتغير الزمان والمكان وواقع كل بلد وما يحتاج إليه (مثال : تعليمه عليه الصلاة والسلام لمعاذ كيفية تعامله مع أهل اليمن قائلاً : ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله )) . رواه البخاري الحديث رقم /1496 .
ومثال ما فعله عليه الصلاة والسلام مع أهل مكة في ترك الكعبة على بنائها الأصلي دون إحداث زيادة مراعاة لحداثة عهد أهلها بالإسلام . وكذلك النهي عن إقامة الحدود في المعارك الحربية خشية انقسام الجيش ودرءاً للفتنة .
9-ما اهتدى إليه الأصوليون في بيانهم لمصادر التشريع الإسلامي من الاستحسان والعرف والمصالح المرسلة وسد الذرائع وغير ذلك ، وقولهم بتغير الأحكام بناءً على تغير الأعراف والمصالح والأحكام المعللة بعلة منصوصة ، ومن أقوالهم في ذلك : ( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ) و ( الأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً ) .
10-ما تدور عليه مقاصد الشريعة من حفظ مقومات الوجود الإنساني : ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال ) والبعض أضاف إليها العدل والحرية .
11-نظرية الأهلية الأصولية التي تأخذ بعين الاعتبار حال المكلف .
12-ما اهتدى إليه الفقهاء من (فقه النوازل ) ونظرية(الظروف الطارئة ) .
رابعاً ضوابط في فقه الواقع :
لكي يكون فقه الواقع منضبطاً فإن من الواجب مراعاة الأمور الآتية :
1-الحذر من تمييع نصوص الشرع بحجة الواقع .
2-عدم الانسياق وراء المتلاعبين بمحكمات النصوص وقواطعها وثوابتها بحجة التجديد .
3-الحرص على إبقاء مراتب الأحكام كما هي فالقطعي قطعي والظني ظني .
4-التمييز بين ما يلزم الثبات وما يقبل التغير عند تقرير الأحكام ( فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا يمكن أن تتغير فلا تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولايمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير ) .
5-عدم الجمود على المنقولات من فتاوى الأئمة السابقين وفتيا الناس بها رغم تغير الأحوال وتبدل الأعراف . فذلك جمود والشريعة منزهة عنه .
خامساً : أمثلة تطبيقية على فقه الواقع
زخر تاريخنا الفقهي بأمثلة عديدة على فقه الواقع منها على سبيل الذكر :
1-توقيف عمر رضي الله عنه العمل بسهم المؤلفة قلوبهم ذهاباً منه إلى أن الله قد أعز الإسلام وأن عز الإسلام موجب لحرمانهم وأن الحكم كان منوطاً بمصلحة زالت فزال حكمها .
2-أمر عثمان رضي الله عنه بالتقاط ضوال الإبل مع النهي الوارد في ذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم .
3-أمر علي رضي الله عنه بتضمين الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلاً : لا يصلح الناس إلا ذلك .
4-إجازة عمر بن عبد العزيز القضاء بشاهد ويمين مع عدوله عن ذلك في الشام قائلاً: إنا كنا نقضي بذلك في المدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين .
5-ذهاب فقهاء الأحناف إلى بطلان الإجارة على الطاعات ثم صحح المتأخرون جواز أخذها على تعليم القرآن ثم صححوها على الأذان والإقامة وذلك للضرورة وللحفاظ على تعليم القرآن وإقامة الشعائر .
6-تحريم بيع السلاح في زمن الفتنة مع أن الأصل جواز بيعه وجواز تولية الفاسق للقضاء إذا لم يوجد غيره دفعاً لمفسدة خلو البلاد من القضاء وحفظاً للنظام .
كلمة أخيرة :
قالوا قديماً : ( تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور ) . وقالوا أيضاً : ( النصوص تتناهى والوقائع لا تتناهى وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى ) .
وما دامت الشريعة تحيط بجميع أفعال المكلفين فقد صار لزاماً على فقهاء العصر أن يجتهدوا فيما يقع للناس من مسائل حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد وإزاء كل مستجدة حكم عبر منهج فقهي يجمع بين العلم بالشرع ومقاصده والمعرفة بالواقع ومستجداته مع توظيف بعض العلوم الحديثة كعلم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد لدى تكييف الواقعة من الناحية الشرعية وقد يكون من الخير لفقهاء العصر أن يفيدوا من المتخصصين في كل علم عند تقريرهم للأحكام وبذلك يكونون قد برهنوا خير برهان على أن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)