مقالات مختارة

حكم المشاركات السياسية في ظل الأنظمة العلمانية

بقلم د. عدنان محمد أمامة – عضو رابطة علماء المسلمين.

نعني بالمشاركات السياسية:

المشاركة في مختلف أجهزة الحكم والسلطة التشريعية والتنفيذية، ابتداءً من تولي عضوية المجالس البلدية والاختيارية ورئاستها، مروراً بتولي عضوية المجالس النيابية ورئاستها، وعضوية مجلس الوزراء ورئاستها، وصولاً لتولي رئاسة الدولة.

والموضوع من النوازل المعاصرة التي شغلت العلماء منذ ما يقارب القرن من الزمن، وذلك إثر سقوط الخلافة العثمانية وتمزق العالم الإسلامي وقيام كيانات ودول على أسس علمانية استبعدت الحكم الشرعي وألزمت المسلمين التحاكم إلى الأحكام الوضعية، ونسجل منذ البداية أنه لا خلاف بين العلماء والدعاة والعاملين للإسلام على وجوب التحاكم للشريعة، وأن التشريع خالص حق الله، وأن أنظمة الحكم الديمقراطية والعلمانية القائمة على إعطاء حق التشريع والتحليل والتحريم للبشر أنظمة كفرية، وأن من يسلم لها بذلك كافر، وعلى أن الأصل في المشاركة في هذه الأنظمة الحرمة ووجوب المقاطعة والاجتناب، لأنها تقوم على الحكم بغير ما لنزل الله، لكن وقع الخلاف بين العلماء في توصيف المشاركة في هذه الأنظمة هل تعد من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، ومن باب التعامل مع أمر واقع لا قدرة للمسلمين على دفعه وتغييره، ومن باب التخفيف من الأضرار والمفاسدة الحالة بالمسلمين، ورغم أن الجميع متفقون على ضرورة إعمال قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، إلا أنهم اختلفوا في تنزيل القاعدة على مسألة المشاركات تبعا لاختلاف وجهات نظرهم في تقدير المصالح والمفاسد المترتبة على المشاركة أو المقاطعة، واستدل كل فريق بما يؤيد رأيه، وسأعرض فيما يلي لأدلة المجيزين والمانعين ومناقشتها ثم أختم بالرأي الراجح.

أدلة المانعين:

يستدل من يرى حرمة المشاركات السياسية في الحكومات العلمانية بأدلة كثيرة يصل من خلالها إلى حرمة مشاركة المسلمين السياسية على تفاوت بين أصحاب هذا الرأي في نوع المشاركة فهناك من لا يرى فرقا بين نوع ونوع ويرى حرمة المشاركة فيها جميعاً، لا بل يرى كفر المشارك حتى لو قام بحربها وبيان كفرها وعداوتها للدين، ويرى أيضاً كفر من يعينه سواء كانت المشاركة في رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو الوزارات والأعمال التنفيذية أو حتى المجالس البلدية والاختيارية، وهناك من يفرق بين المشاركة في المجالس التشريعية فيرى جواز المشاركة فيها على اعتبار أن النائب يتمتع فيها بحرية الرفض والاعتراض على ما يخالف الشريعة، بينما يرى حرمة المشاركة في المناصب التنفيذية على اعتبار أنه ملزم فيها بالحكم بمقتضى الأحكام الوضعية.

ونحن هنا سنعرض لأدلة المانعين عموماً دون الوقوف على ما بينهم من خلاف.

1- الدليل الأول: إن هذه المجالس النيابية تشرع من دون الله، وهذا كفر وردة عن الإسلام، ومفسدة الكفر فوق كل مفسدة، والكفر لا يجوز ارتكابه إلا عند الإكراه مع اطمئنان القلب بالإيمان، وليس ما نحن فيه من الإكراه في شيء، وكذلك تولي الوزارة في ظل حكومة جاهلية تحكم بغير شرع الله يجبر فيها الوزير على تنفيذ القوانين الوضعية والتشريعات الباطلة وأي مصلحة يظن أنها ستتحقق لا توازي هذه المفسدة العظيمة.

2- الدليل الثاني: أن متولي هذه المناصب يلزم بالحلف على احترام الدستور الكفري والقانون الملئء بالمخالفات الشرعية وهذه مفسدة لا تقارن بأي مصلحة مرجوة.

3- الدليل الثالث: تكاثرت الأدلة الشرعية التي نصت على وجوب البراءة من الشرك والمشركين والآمرة باجتناب مجالسهم، قال تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا)، وأمثالها من الآيات، ولا شك أن المشاركة مع من يدعي لنفسه حق التشريع وينازع الله في الحكم من الركون إلى الذين ظلموا ويتنافى مع البراءة المطلوبة.

4- الدليل الرابع: أن في مشاركة الدعاة والإسلاميين في الحكومات العلمانية تمييعا لقضية الحكم بما أنزل الله لدى الجماهير فيجد الناس تناقضا بين قول الداعية: إن الحكم بغير ما أنزل الله باطل وبين عمله، حيث قبل أن يكون عضوا في حكومة أو مجلس ما قام إلا على أساس الحكم بغير ما أنزل الله.

5- الدليل الخامس: أن هذا الأسلوب ينافي هديه – صلى الله عليه وسلم – وسيرته، فإنه كان في مكة في حالة استضعاف وعرضوا عليه أن يجعلوه ملكاً عليهم، فرفض وأصر على إعلان دينه خالصاً كما أنزله الله وتعرض بسبب ذلك للأذى فصبر، ولم يلجأ إلى أي مهادنة مع الكفار.

أما المجيزون للمشاركة وهم الكثرة الكاثرة من علماء المسلمين المعاصرين، والجمهور الأعظم، فعمدة رأيهم إعمال القواعد الشرعية المتفق عليه مثل: قاعدة ارتكاب أخف الضررين وفعل أهون الشرين ودفع أعظم المفسدتين، ولم يروا أن المشاركة هي المفسدة الكبرى التي لا تعدلها مفسدة أخرى وقد استدلوا على صواب رأيهم بالأدلة التالية:

1- تولي نبي الله يوسف – عليه السلام – خزائن أرض مصر ما يعني وزارة المالية في اصطلاحنا المعاصر في ظل حكم كافر حيث قال للملك: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) يوسف55، وقد امتن الله على يوسف بأن هيأه لهذا الموقع، قال – تعالى -: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) يوسف56.

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/56-57): ” ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض، لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا كما قال – تعالى -: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات، فما زلتم في شك مما جاءكم به) (غافر: الآية 34) وقال – تعالى -عنه: (يا صاحبي السجن! أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) (يوسف: الآية 38، 39). ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال السلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله – تعالى -: (فاتقوا الله ما استطعتم)”.

2- بقاء النجاشي ملكاً على الحبشة بعد إسلامه، إذ من المعلوم أن النجاشي أسلم ومات على الإسلام، ومع ذلك بقي حاكما في قوم جميعهم من الكفار المعاندين للتوحيد، الرافضين للدخول في الدين، وما ذلك إلا لأن بقاءه فيهم يقيم العدل والإحسان ويدعوهم إلى الله خير من ترك هذا المنصب يتولاه الكفار المفسدون.

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (19/218): “والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن ; فإن قومه لا يقرونه على ذلك. وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا – بل وإماما – وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها “. وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سم على ذلك”. ولا شك أن في إقرار النبي – صلى الله عليه وسلم – للنجاشي بقاءه ملكا على قومه الكفار مع عجزه عن إقامة حكم الشريعة فيهم دليلا على جواز تولي المسلم ولاية عامة بل منصب الرئاسة ذاته إذا كان في ذلك خير ونفع وإقامة للعدل وتخفيف للشر وما عجز عن تطبيقه من الواجبات أو اضطر إلى فعله من المحرمات فلا حرج عليه في ذلك استدلالاً بالأدلة المتقدمة، وقد ناقش المجيزون حجج المانعين، وردوا عليها، ولم يسلموا أن في مجرد المشاركة ارتكاباً للكفر ولا إقراراً به، ولا إعانة عليه ما دام المشارك يعلن عقيدته على الملأ، ويبدي استنكاره ومعارضته للحكم بغير ما أنزل الله، وما شارك إلا من قبيل التخفيف من شر هذه الأنظمة والحد من ظلمها وخطرها على الإسلام والمسلمين، بل الملاحظ أن اعتزال هذه الأنظمة وتركها مع عدم وجود أي بديل آخر أمام الدعاة للوقوف بوجهها ووقف طمسها لهوية المسلمين قد أدى إلى استفحال الشر وابتعاد الناس عن الدين، وتمكين العلمانيين والحاقدين على الإسلام من الإمساك بمفاصل السلطة والتحكم بدماء الناس وأعراضهم وأموالهم.

وأما مسألة الحلف على احترام الدستور الكفري فإذا لم يتمكن المشارك من الهروب منه فيمكنه أن يضمر في نفسه نية صحيحة كنية احترام الدستور فيما لا يخالف الشريعة ويكون الحلف والحالة هذه على نية الحالف وليس على نية المستحلف لأن المستحلف ظالم، قال ابن حجر في فتح الباري (12/323): “إذا كان المستحلف ظالماً فنية الحالف، وإن كان مظلوما فنية المستحلف”. وأما الجواب على الاستدلال بأن الشرع حرم مجالسة المستهزئين بالدين فهذا صحيح إذا كان مع السكوت وإقرار الباطل أما مع الإنكار والاعتراض على ما يخالف الشريعة فهذا من القيام بواجب إنكار المنكر حسب المستطاع. أما القول بأن المشاركة تؤدي إلى تمييع الحكم بالشريعة فهذا صحيح إذا نسي المشارك عقيدته ولم يقم بالدور المطلوب منه في الصدع بالحق وبذل أقصى جهد لتكثير الخير وتقليل الشر. وأما أن المشاركات ليست من سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا من هديه وأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – رفض ما عرضه عليه المشاركون من تنصيبه ملكا عليهم فهذا من القياس مع الفارق لأن العرض كان قائما على أن يتخلى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن دينه ودعوته مقابل تمليكه عليهم وهذا غير وارد في مسألتنا.

الرأي الراجح: بعد ما تقدم يتبين لنا أن الرأي الراجح جواز المشاركة السياسية في واقعنا المعاصر للأسباب التالية:

1- قوة أدلتهم ووضوح دلالتها على المطلوب بل تكاد تكون نصاً في مسألتنا.

2- أن هذا القول هو قول جهابذة العلماء ومحققيهم من مختلف المدارس الفقهية، وبه أفتت المجامع الفقهية المتعددة والتي تضم مئات العلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

3- أن الواقع يشهد بصواب هذا الرأي حيث نرى أن البلاد التي غاب الإسلاميون فيها عن التعاطي السياسي قد استضعف فيه المسلمون أيما استضعاف وأصبحت مصالحهم الضرورية كلها من الدين والنفس والعرض والمال مهددة، وتجارب استخدام القوة العسكرية مع عدم وجود القدرة عادت بنتائج كارثية على البلاد والعباد وأضرت بالمسلمين وضيقت عليهم في دينهم ودنياهم، لكن لا بد للمشاركات السياسية أن تنضبط بضوابط تمنع أصحابها من الوقوع في الفتنة ومنها: أن لا يشارك إلا الموثوق بدينه، الجريء بقول الحق، وأن تكون المشاركة منوطة بتحقيق المصلحة الشرعية بحيث إذا كانت المشاركة لا يتأتى منه مصلحة امتنعت وحرمت، وألا تتضمن المشاركة فعل ما يناقض التوحيد مثل تشريع ما يخالف الشريعة.

——————————-

المراجع:

الأحكام الشرعية للنوازل المعاصرة د.عطية عدلان

الموازنة بين المصالح والمفاسد وأثرها في الشأن المصري العام بعد الثورة محمد كامل

مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية وقبول المجالس النيابية عبد الرحمن عبد الخالق

أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان فتحي يكن

القول السديد في بيان أن دخول المجلس مناف للتوحيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى