حضور قيمة المساواة في حكم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه
مواقف عظيمة وعبر مستفادة من سيرة الفاروق
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
إِنَّ النَّاس جميعاً في نظر الإِسلام سواسيةٌ، الحاكم والمحكوم، الرِّجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإِسلام الفوارق بين النَّاس بسبب الجنس، واللَّون، أو النَّسب، أو الطَّبقة، والحكام والمحكومون كلُّهم في نظر الشَّرع سواءٌ(باكريم، 1994،ص 170)، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهدٍ، وهذه بعض المواقف الَّتي جسَّدت مبدأ المساواة في دولته:
ـ أصابت النَّاس في إِمارة عمر ـ رضي الله عنه ـ سَنَةٌ (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسفي إِذا ريحت (بدوي، 2000، ص10)تراباً كالرَّماد، فسمِّي ذلك العام عام الرَّمادة، فالى (حَلَفَ) عمر ألا يذوق سمناً، ولا لبناً، ولا لحماً حتَّى يحيا النَّاس من أول الحيا، فكان بذلك حتَّى أحيا الناس من أوَّل الحيا، فقدمت السُّوق عكَّةٌ من سمن، ووطْب من لبنٍ، فاشتراها غلام لعمر بأربعين، ثمَّ أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين ! قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطبٌ من لبنٍ، وعكَّةٌ من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدَّق بهما، فإِنِّي أكره أن اكل إِسرافاً. وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرَّعية إِذا لم يمسَّني ما مسَّهم.(الصلابي، 1999، ص 501)
هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الَّذي سمِّي عام الرَّمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد: أصاب النَّاس سنة غلاءٍ، فغلا السَّمن، فكان عمر يأكل الزَّيت، فتقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت، فوالله لا تأكل السَّمن حتَّى يأكله النَّاس.
ولم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصَّدر الأول على المعاملة الواحدة للنَّاس كافَّةً، وإِنَّما تعدَّاه إِلى شؤون المجتمع الخاصَّة، ومنها ما يتعلَّق بالخادم، والمخدوم، فعن ابن عباسٍ: أنَّه قال: قدم عمر بن الخطَّاب حاجّاً، فصنع له صفوان بن أميَّة طعاماً، فجاؤوا بجفنةٍ يحملها أربعةٌ، فوضعت بين يدي القوم يأكلون، وقام الخدَّام، فقال عمر: أترغبونه عنهم ؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين ! ولكنَّا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثمَّ قال: ما لقوم يستأثرون على خدَّامهم، فعل الله بهم وفعل ! ثمَّ قال للخدَّام: اجلسوا، فكلوا، فقعد الخدَّام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين.(القاسمي، 1987، ج1، ص87)
وكذلك فإِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يأكل من الطَّعام ما لا يتيسَّر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدَّهر، فكان زمن الرَّمادة إِذا أمسى أتي بخبز قد ثرد بالزَّيت، إِلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً، فأطعمها الناس، وغرفوا له طيِّبها، فأتي به فإِذا قديدٌ من سنامٍ، ومن كبدٍ، فقال: أنَّى هذا ؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين ! من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخٍ بخٍ، بئس الوالي أنا إِنْ أكلت طيِّبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطَّعام، فأتي بخبزٍ وزيتٍ، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز.(الجوزي، 2001، ص101)
ولم يكن عمر ليطبِّق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلِّمه لعمَّاله في الأقاليم، حتَّى في مسائل الطَّعام، والشَّراب.(القاسمي، 1987، ج1، ص87)
فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان؛ أتي بالخبيص، فلمَّا أكله وجد شيئاً حلواً طيِّباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثمَّ حملهما على بعيرٍ مع رجلين، فسرح بهما إِلى عمر. فلمَّا قدما عليه؛ فتحهما، فقال: أيُّ شيءٍ هذا ؟ قالوا: خبيص. فذاقه، فإِذا هو شيءٌ حلوٌ. فقال: أكلُّ المسلمين يشبع من هذا في رحله ؟ قال: لا. قال: أمَّا لا؛ فارددهما. ثمَّ كتب إِليه: أمَّا بعد: فإِنَّه ليس من كدِّ أبيك، ولا من كدِّ أمِّك. أَشْبِعِ المسلمين ممَّا تشبع منه في رحلك.(القاسمي، 1987، ج1، ص188)
ومن صور تطبيق المساواة بين النَّاس ما قام به عمر عندما جاءه مالٌ، فجعل يقسمه بين النَّاس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم النَّاس، حتَّى خلص إِليه، فعلاه بالدِّرَّة، وقال: إِنَّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببتُ أن أعلمك أنَّ سلطان الله لن يهابك.(الجوزي، 2001، ص147)
فإِذا عرفنا: أنَّ سعداً كان أحد العشرة المبشِّرين بالجنَّة، وأنَّه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد السِّتَّة، الَّذين عيَّنهم للشُّورى؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وهو راضٍ عنهم، وأنَّه كان يقال له: فارس الإِسلام… عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة.(الجوزي، 2001، ص147)
ويروي ابنُ الجوزي: أنَّ عمرو بن العاص، أقام حدَّ الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطَّاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في السَّاحة العامَّة للمدينة، لتتحقَّق من ذلك العبرة للجمهور، غير أنَّ عمرو بن العاص أقام الحدَّ على ابن الخليفة في البيت، فلمَّا بلغ الخبر عمر، كتب إِلى عمرو بن العاص: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إِلى العاص بن أبي العاص: عجبت لك يا بن العاص، ولجرأتك عليَّ، وخلاف عهدي. أما إِنِّي قد خالفت فيك أصحاب بدرٍ ممَّن هو خيرٌ منك، واخترتك لجدالك عنِّي، وإِنفاذ عهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إِلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرَّحمن في بيتك، وقد عرفت أنَّ هذا يخالفني ؟ إِنَّما عبد الرحمن رجلٌ من رعيَّتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت أنْ لا هوادة لأحدٍ من النَّاس عندي في حقٍّ يجب لله عليه، فإِذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءةٍ على قتبٍ حتَّى يعرف سوء ما صنع.(النجار، 1986، ص243) وقد تمَّ إِحضاره إِلى المدينة، وضربه الحدَّ جهراً. وروى ذلك ابن سعدٍ، وأشار إليه ابن الزُّبير، وأخرجه عبد الرزاق بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر مطوَّلاً.(القاسمي، 1987، ج1، ص88)
وهكذا نرى المساواة أمام الشَّريعة في أسمى درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتَّع ببعض الرِّعاية، فالمه ذلك أشدَّ الألم، وعاقب واليه ـ وهو فاتح مصر ـ أشدَّ العقاب،وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحقُّ من العقاب، حرصاً على حدود الله، ورغبةً في تأديب ابنه، وتقويمه، وإِذا كان هذا منهجه مع أقرب النَّاس عنده، فما بالك بالاخرين؟!(الجوزي، 2001، ص235)
لقد طبَّق عمر ـ رضي الله عنه ـ مبدأ المساواة الَّذي جاءت به شريعة ربِّ العالمين، وجعله واقعاً حيّاً يعيش، ويتحرَّك بين النَّاس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوَّة، ولم ينثن أمام ألقاب النَّبالة، ولا تضيَّع أمام اختلاف الدِّين، أو مجاملة الرِّجال الفاتحين، لقد كان ذلك المبدأ العظيم واقعاً حيّاً، شعر به كلُّ حاكمٍ، ومحكوم، ووجده كلُّ مقهورٍ، وكلُّ مظلومٍ.
__________________________________________________________
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، عمر ابن الخطاب، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003
أبو الفرج عبد الرَّحمن بن الجوزي، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، دار الكتاب العربي، بيروت ـ الطَّبعة الرَّابعة 1422 هـ 2001 م
إِسماعيل بدوي، السِّياسة الشَّرعيَّة، مكتبة المنار، الكويت، الطَّبعة الأولى 1421 هـ 2000 م.
محمَّد باكريم محمَّد باعبد الله، وسطيَّة أهل السُّنَّة بين الفرق، دار الرَّاية، الرِّياض، السُّعوديَّة، الطَّبعة الأولى 1415 هـ 1994 م.
علي محمَّد الصَّلابي، فقه التَّمكين في القران الكريم، دار البيارق، عمان، الطَّبعة الأولى1419ه- 1999 م.
ظافر القاسمي، نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإِسلامي، دار النَّفائس، بيروت، الطَّبعة الثَّالثة 1407 هـ 1987
عبد الوهَّاب النَّجَّار، الخلفاء الرَّاشدون، دار القلم، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1406 هـ 1986 م.