مقالاتمقالات المنتدى

حصار مدينة عكّا.. قراءة في أسباب السقوط

حصار مدينة عكّا.. قراءة في أسباب السقوط

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

كان ثمة أسباب عديدة تجمَّعت ، وأدَّت إلى سقوط عكَّا المريع ، بعد أن دافع عنها المسلمون قرابة السَّنتين ، ولعلَّ من أبرزها:

 

1 ـ وصول قوات أوروبيَّة جديدة: حَسَمَ الموقف لصَّالح الصليبيين ، فعلى الرغم من كثرة من قتل منهم ، إلا أنَّ البحر كان يزوِّدهم بإمداداتٍ جديدةٍ؛ حتى أضحوا في أعداد لا تُحصى من أممٍ كثيرة ، تلك التي اشتركت في هذه الحملة الصليبية الضَّخمة ، فتجهَّز لها الأمراء بما أعدُّوه من الأموال ، والأدوات ، وبما تكفَّلَتْ به المدن الإيطالية من بذل المساعدة ، والاشتراك ي نقل العساكر ، والمعدَّات ، وعدم السماح للسُّفن الإسلامية بإيصال الؤمن والمعدَّات اللازمة إلى المدينة المحاصرة ، فكان تفوُّقهم البحري واضحاً. لقد قاومت المدينة حصار الصَّليبيين سنتين كاملتين ، وشهدت خلالهما أعظم عمليات حربيَّة اشترك فيها الصَّليبيُّون بأكثر من ربع مليون جندي ، وامتاز الصَّليبيون خلال هذا الحصار بأسطولٍ قويٍّ ، والاتٍ حربيَّةٍ ضخمة. (صلاح الدين الأيوبي. قدري قلعجي ص 204)

2 ـ استخدام الصَّليبيين لأسلحةٍ جديدةٍ ، ومتنوعةٍ: استعمل الصليبيون في قتال عكَّا أنواعاً كثيرة من الأسلحة ، والمعدَّات الحربية القديمة منها ، أو التي أدخلوا إليها التحسينات ، سواءٌ الهجومية منها لدكِّ أسوار المدينة ، أو لحماية أنفسهم خلف الجدران ، والخنادق؛ التي أقاموها لمنع وصول قوات صلاح الدين إليهم ، واستطاعوا بعد مرابطتهم الطَّويلة بين أسوار عكا ، وقوَّات صلاح الدين إحداثَ الخلل في الأسوار، ففي رسالة حرَّرها القاضي الفاضل بعث بها صلاح الدين إلى الخليفة العباسي أعلن فيها: أنَّ الصليبيين: قاتلوا مرَّةً بالأبرجة ، وأخرى بالمنجنيقات ، ورادفة بالدَّبابات ، وتابعةً بالكباش ، واونةً باللوالب ، ويوماً بالنقب ، وليلاً بالسِّرايات ، وطوراً بطمِّ الخنادق ، واناً ينص السَّلالم ، ودفعةً بالزحوف في اللَّيل والنهار ، وأحياناً في البحر بالمراكب، وكان رجال ريتشادر يستطيعون أن يتسلَّقوا جدران السُّور بواسطة الةٍ جديدة مستحدثة سمَّوها «الهر» ومجانيق تستطيع رمي الحجارة الضَّخمة التي تزعزع الجدران ، وتحدث الهزَّات؛ حيث تقع في المدينة. (الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين ص 466)

3 ـ طول مدَّة الحصار البحري ، والبرِّي: ولَّد تعباً أصاب المسلمين ، وسبَّب ذلك ضجراً ، رغم ما كان يحدثه صلاح الدين من تبديل بين المحاربين بإرسال البدل إلى داخل المدينة ، إلا أنَّه لم يستطع الاستمرار على ذلك، لاسيما

 حين شدَّد الصَّليبيون من حصارهم عليها ، وكذلك لم تُجْدِ نفعاً النجاحات التي أحرزها الجيش الصَّلاحي الذي يحاصر الصليبيين ـ بين فترة ، وأخرى ، ولاسيما في بداية الحصار الصَّليبي، وكانت النتيجة الحتمية هي التواني في بذل المجهود الحقيقي ، ثم إبداء الأمراء التذمُّر من صلاح الدين ، فلم يلبث التذمُّر حتى صار عادةً ، وتطوَّر إلى نقدٍ ، ثم إلى معارضةٍ ، أضعفت الصفَّ الإسلامي. (الجيش الأيوبي ص 466)

وقد روى السلطان للخليفة العباسي في رسالةٍ أوضح فيها أبعاد الموقف أمام عكَّا ، وانسحاب الأمراء واحداً بعد اخر؛ لأنَّ المدَّة الطويلة ، والكلف الثقيلة قد أثَّرت في استطاعتهم لا في طاعتهم ، وفي أحوالهم لا في شجاعنهم ، فالبرك (الثياب) قد أقضوه ، والسِّلاح قد أحفوه ، والدرهم قد أفنوه في حين أنَّ البحر بمدُّ الإفرنج بمراكب أكثر عدَّةً من أمواجه… فإذا قتل المسلمون واحداً من البرِّ بعث عوضه ألفاً ، وإذا ذهب بالقتل صنفٌ منهم أخلف بدله صنفاً.

إلا أنَّ السلطان لم يأسف لشيء بقدر ما أسف لتغيب ابن أخيه تقي الدين عمر الَّذي ذهب إلى إمارته في الجزيرة على أن يعود في أقرب وقت فشغلته أحداث الإمارة عن العودة السَّريعة ، وقد رأى صلاح الدين في غياب تقي الدين أحد الأسباب الرَّئيسية التي أدَّت إلى سقوط عكَّا (صلاح الدين الأيوبي. قلعجي ص 300)

4 ـ ضعف المؤسَّسة المالية في جيش صلاح الدِّين: كشف الصِّراع الطويل مع الصَّليبيين ، وسقوط عكَّا عن مواطن الضَّعف المادية في جيش صلاح الدين ، ومعروفٌ عن صلاح الدين: أنه لم يولِ اهتماماً كافياً بالإدارة المالية، ولم يدَّخر المال ليوم الحاجة ، ويفسَّر بذل المال الذي عرف عنه بأنَّ ظروف الجهاد اقتضت ذلك: فقد أنفق المولى مالَ مصر في فتح الشَّام ، وأنفق مال الشَّام في فتح الجزيرة ، وأنفق مال الجميع في فتح السَّاحل. وسرعان ما لقي نفسه بحاجةٍ شديدةٍ إلى المال لسدِّ نفقات الأسلحة ، والمؤمن ، والعلف ، والمعدَّات ، وعطاء الجند ، وكذلك لم يقدر على التَّخفيف من الضَّائقة المالية عن العساكر المرابطين على عكَّا ، والَّذين اضطروا إلى الاستدانة، وكذلك إحلال خيولٍ، وأسلحةٍ جديدةٍ بدلاً من المستهلكة ، فالخيول: أجهدها الجهاد.. والعُدَد فقدت بالكليَّة، وعدمت،  وتكسرت ، وتحطَّمت ، وأما النشَّاب؛ فقد فني ، ونفضت الكنائن. ويضيف العماد إلى كلامه: أنه احتيج في هذه السنين إلى أحمالٍ كثيرةٍ لا يفي بها الصُّنَّاع ، ولا يرفعها العُمَّال.

هذه هي أهم الأسباب التي أدَّت إلى سقوط عكَّا.

5 ـ بَعْدَ عكَّا: كان لسقوط عكا تأثيره الكبير على وضع المسلمين ، وعلى الرَّغم من أنَّ الضَّربة لم تكن قاضيةً ، إلا أنَّ هذا الحدث أضعف المسلمين كثيراً؛ بحيث ركنوا بعده إلى الدِّفاع السلبي ، والذي من مظاهره تخريب بعض القلاع، والحصون لكي لا تقع بيد العدو ، ثم يجعل منها مرتكزاً للهجوم على المناطق الإسلاميَّة. صحيح: أنَّ فشل جيش صلاح الدين في حصار صور يعتبر بداية لخط الإنكسار الإسلامي ، إلا أنَّ هذا الفشل يوضع في التَّحليل الأخير ضمن إخفاقات جيش صلاح الدين ، وليس ضمن انتصارات الصَّليبيين ، والقصد من ذلك: أن ما حصل في صور هو عدم نجاح حصار المسلمين لإحدى المدن ، أمَّا في عكا، فقد هزم المدافعون عنها ، وانتصر الصَّليبيون. (الجيش الأيوبي ص 468)

ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: “صلاح الدين الأيوبي..”، للدكتور علي الصلابي، واعتمد في كثير معلوماته على كتاب: الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين، د. محسن محمد حسين.

_______________________________________________________

المراجع:

  • صلاح الدين الأيوبي، قدري قلعجي الطبعة الثالثة 1997 م، دار المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، لبنان.
  • الجيش الأيوبي في عهد صلا الدين، د. محسن محمد حسين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1406 هـ 1986م.
  • صلاح الدين الأيوبي، د. علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى