حركة حماس ووقفة مع التّاريخ الإسلامي
بقلم أسماء عابد
الحقيقة أنّ القراءة عن التّاريخ الإسلامي مفيدة في نواحي شتّى، فهي أوّلا تعلمّنا عن ديننا الحقيقي وكيف أنّ هذا الدّين قد أنشأ أمّة من العدم خضعت لها الشّعوب وخافت منها أقوى الامبراطوريات، بل وسقطت على يدها أعظم الأمم.
ثانياً، تجعلنا القراءة نفهم أنّ الأمّة الإسلامية لها كبواتها أيضاً، ليس لأنّ الدّين قد يضعف، بل لأنّ حامله يتغيّر بفعل الزّمن وبفعل عوامل أخرى، فينعكس ذلك الضّعف على الأمّة. لكنّها لا تسقط، فضعفها يكون دوماً مرحلة عابرة مهما طالت تلك المرحلة، لكن إن وُجد بين أبنائها من يحمل الدّين في قلبه فلن تسقط. أما ثالث ما يمكننا تعلّمه من التّاريخ الإسلامي هو كيف تتكرّر الأحداث لكن بسيناريوهات مختلفة، وكيف أنّنا نستطيع أن نأخذ العبر منها فنسقطها على واقعنا الحالي، لنغيّره ولو قليلاً إلى الأفضل، ولعلّها تكون خطوة نحو الاستيقاظ من النّوم الّذي طال.
يمكننا حتماً تعلّم الكثير من التّاريخ، لكن برأيي أهمّ ما يمكننا تعلّمه هو أنّ المثالية أمر غير موجود على أرض الواقع، وأنّ هذا الدّين لا يحتاج للمثالية ليُقام، وإلّا فإنّنا سنحطّ من قيمة عدّة عصور قامت في تاريخ الأمّة الإسلامية ازدهرت فيها الحضارة وازدهر فيها الإسلام، لكنّها لم تكن حتما مثالية.
ما أعنيه بهذا الكلام هو أنّ الدّين الإسلامي عرف مرحلتين مثاليتين فقط لا تتكرّران بسهولة، وهي مرحة النبوّة حيث كان النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، هو القائد الأعلى لأمّته الّتي بُنيت على أكتاف مؤمنين بحقّ، من القاعدة إلى الأعلى ومن الأعلى إلى القاعدة. ومرحلة الخلفاء الرّاشدين، والّتي لعلّها تعبّر عن مثاليتها الحقيقية في عهد الخليفتين أبو بكر وعمر. حيث كان عمر السدّ المنيع لهذه الأمّة. ولا يعني هذا الكلام التّقليل من الخليفة عثمان ولا الخليفة عليّ، لكنّ الأحداث تثبت أنّ الأمّة بعد الخليفة عمر تختلف عنها بعده، وهي سنّة الله في الأرض وحكمته الّتي نعرف عنها قليلاً يوماً بعد يوم.
ما رافق الأحداث بعد تولّي معاوية بن أبي سفيان الخلافة وانتهاء عهد الخلافة الرّاشدة هي حتماً أحداث خطيرة على الأمّة، فقد تمّ سلب الحكم ممّن هو أحقّ به وتمّ تغيير الحكم ليصبح مُلكاً بدل أن يكون شورى كما تركه النبيّ خلفه، وإن لم يرى أحد أنّ معاوية قد سلب الملك من غير استحقاق فسيرى أنّه قد أدّى بتولية العهد لابنه إلى تغيير نظام حكم، وهو تغيير ليس من حقّه. إذن هل نقول عن عهد معاوية أنّه عهد لا يمتّ للإسلام بصلة؟
هل نحقّر كلّ إنجازاته الرّائعة حيث توسّعت الدّولة في عهده ودخلت البلدان في الإسلام أفواجاً، لأنّه فعل ما فعله؟ إذا ما تقدّمنا قليلاً في التّاريخ الإسلامي فسنجد أنّ الأمور الجيّدة كانت ترافق الأمور السيّئة دوماً، لم تكن هناك مثالية، لكنّ الأمور الجيّدة أثمرت. لم يكن المُلك مثالياً فلربّما قتل مسلماً خشي مخالفته، لكنّه كان باسلاً في الجهاد. بل مرّت فترات في التّاريخ الإسلامي لا أستطيع حتّى استساغة أيّ تبرير لها كالدّولة العبّاسية، لكنّ فيها حتماً من الأمور الجيّدة رغم ما ملأها من مكر وقتل.
الدّولة العثمانية ستلاقي التّقييم نفسه، بدأت بقوّة ثمّ عرفت عصر الضّعف، لكنّها رغم ذلك الضّعف كانت سدّا ضدّ العدوّ، وفي أواخرها حينما كان الضّغط كلّه على آخر سلاطينها عبد الحميد الثّاني، عزم هو أن يدافع عنها بكلّ قوّته إلى آخر رمق.
وهكذا توالت الدّول في التّاريخ الإسلامي، بعضها جيّد كثيراً وبعضها سيّء كثيراً، لكن كان فيها دوماً الكثير أو القليل من الأمور الجيّدة والسيّئة معاً، فهكذا هي الحياة. لن يكون هناك حاكم شبيه بالخلفاء الرّاشدين، النّفس البشرية وإغراء الدّنيا يفعلان فعلهما في أيّ بشري أيّا كان، فهناك من يقاوم وهناك من يقف بالمنتصف، لكنّ المهمّ أنّه لن يستسلم.
الدّولة العثمانية ستلاقي التّقييم نفسه، بدأت بقوّة ثمّ عرفت عصر الضّعف، لكنّها رغم ذلك الضّعف كانت سدّا ضدّ العدوّ، وفي أواخرها حينما كان الضّغط كلّه على آخر سلاطينها عبد الحميد الثّاني، عزم هو أن يدافع عنها بكلّ قوّته إلى آخر رمق، ليس حبّاً بدولته بل لأنّه كان يدرك أنّ نهايتها تعني كارثة للعالم الإسلامي. كان قد جاءه من يساومه على القدس مراراً لكنّه رفض تسليمها، فعمدوا إلى الخطّة البديلة عن طريق إفساد الشّعب من الدّاخل ليبحث عن الاستقلال، سواء الشّعب التّركي أو الشّعوب العربية، وها نحن ندفع ثمن الاستغفار والثّقة بالعدو الغادر. لكنّ المغزى من كلامي هذا ليس لوم أحد ولا التحسّر على ما فات، بل تطبيق الواقع على الواقع. لم توجد مثالية بعد الخلفاء الرّاشدين، ولن توجد الآن.
إن كان الله قد كتب لها بأن ترى النّور ثانية فلن يحصل ذلك بين ليلة وضحاها، كما تمهّدت الطّريق بهدوء للأمّة الإسلامية بأن تخرج من مثاليتها، يجب أن تُمهّد لها الطّريق بهدوء لعلّها تعود إليها. وهو ما لا يفهمه الشّعب العربي المسكين الّذي يجلس أمام هاتفه المحمول ثمّ يطلق تصنيفاته على مختلف الأحزاب والجماعات الّتي تحاول التقدّم خطوة إلى الأمام، فيصنّف هذا بالخائن ويكفّر هذا، ويطلق لعناته على ذاك الّذي تعاون مع عدوّ. هذا الشّعب المسكين عليه أن يصمت أحياناً أو ربّما في أحيان كثيرة، وأن ينظر إلى نفسه ما الّذي فعله هو ليصنّف جهود الآخرين. إن كان هذا الشّعب يريد أن يستيقظ في يوم ليجد الخلافة قد أطلّت برأسها من نافذته فأنصحه ألّا يستيقظ من أحلامه وأن يكتفي بها.
هذه المثالية الحمقاء الّتي يبحث عنها الشّعب العربي اليائس لن توجد، ولن توجد حتماً طالما أنّ هناك شعبا يكتفي بإلقاء اللّوم دون أن يتحرّك خطوة إلى الأمام. الجهود الصّغيرة جيّدة ومفيدة ويجب ألّا تُحقّر، الإخوان المسلمون حينما حكموا مصر كانت لتكون تجربة مميّزة لولا أنّ الشّعب المصري لم يحمد الله على نعمته، فجعله الله يندم على فعله واستسلامه لفكرة الحرّية المبالغ فيها. سواء أخطأ الإخوان في عدم حماية ظهورهم للعدوّ بشكل جيّد أم لم يخطئوا، كان استغفال الشّعب وجرّه إلى الشّوارع ثانية هو أهمّ عامل في سقوط الإخوان، وانتهاء تجربة لم تعرف النّور.
ونفس الأمر ينطبق على حماس، سواء أخطأت في بعض ما تقوم به أم لم تخطئ فهم بشر وهم في خندق ضيّق هم وشعب غزّة معهم. فكيف بك يا من تجلس بمنزلك مرتاحاً أن تلومهم لأنّهم فعلوا كذا ولم يفعلوا كذا؟ مع كل الضّيق الّذي يعيشونه، استطاع شعب غزّة أن يخترع الأسلحة من القليل وأن يقاوم بكلّ الطّرق ليعلّمنا درساً في العزّة، فكيف نلوم خياراتهم ونحن لا
نفعل ربع ما يفعلونه من جهد للتقدّم نحو الأمام، ولو بخطوة صغيرة. ولعلّ هذا انطبق وينطبق على حالات أخرى تكون الجهود الصّغيرة فيها مهمّة بجب أن نحتضنها، لكنّنا بدلاً من ذلك نبدأ بتصنيفها ولومها على بعض أفعالها، وكأنّ المثالية يجب أن تكون جزءً من أيّ عمل!
(المصدر: مدونات الجزيرة)