حرب إعلامية نازية على تركيا بعدّة لغات
بقلم إحسان الفقيه
يقول ابن خلدون في المقدمة: “فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا”.
لكن البعض له رأي آخر في النظر إلى التاريخ، إذ لا يلتفت إلى الاعتبار والاقتباس والاتعاظ بدورة الزمن، وإنما يلِجُه من أجل توظيفه كسلاح يضرب به خصومه. ولم يُر كدولة تركيا في تعرّضها لحرب قصاصات التاريخ، فما إن لاح الفُجور في الخصومة معها من أصدقاء الأمس، حتى انطلقت منابرهم الإعلامية في حملات التشهير بالتاريخ العثماني، بتسليط الضوء على مثالبه الحقيقية تارة، وبالتزوير والتلفيق تارة أخرى، وإنها لحملة ممنهجة تقوم بها أقلام الصحف الصفراء بالتوازي مع التوظيف الدرامي، على قدم المساواة مع برامج الفضائيات التي تستضيف علماء السلطة لأداء المهمة، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي ينشط فيها الذباب الإلكتروني.
اغتاب رجلٌ رجلًا عند إياس بن معاوية، فقال له إياس: أغزوت الديلم (أحد الشعوب الإيرانية)؟ قال: لا، قال: فغزوت السند؟ قال: لا. قال: فغزوت الهند؟ قال: لا. قال: فغزوت الروم؟ قال: لا. قال: يسلم منك الديلم، والسند، والهند، والروم. وليس يسلم منك أخوك هَذَا؟ وهذه حال بعض الحكومات العربية مع تركيا، سلم منهم الجميع عدا الأتراك، فعندما كان الصهاينة هم العدو الأول للأمة، ونقول (كان) لأنها فعل ناسخ دخل على ماضي الكفاح لصالح القضية الفلسطينية ضد العدو المحتل من باب التطبيع فبدده وجعله أثرًا بعد عين، فعندما كان الصهاينة هم العدو، لم نكن نسمع من تلك الأنظمة وأبواقها صوتًا يندد بجرائم بني إسرائيل، ويستخرج من تاريخ الأمة اليهودية ما يضرب به حاضرها.
أما إيران، فهم يقولون إنها الخطر الأكبر، ومن أجل دفع هذا الخطر تحولت مليارات الدولارات إلى خزانة ترامب، على سبيل الجزية لأغراض الحماية، ومع ذلك لم نرهم يغوصون في تاريخ إيران بثوبه الفارسي أو الصفوي، ويستحضر الجرائم الدموية وفظائع الاعتداءات الوحشية الثابتة في التاريخ.
الحكومات المعادية لتركيا يهمها تكوين صورة نمطية سلبية عن الأتراك في وجدان العرب، وفصم هذا التلاحم الثقافي
“إكذب، إكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس”، هي طريقة غوبلز مهندس الدعاية النازية التي سار عليها خصوم تركيا، غير مكترثين بتحري الدقة والموضوعية، ولا مهتمين برائحة الكذب والتلفيق التي تفوح من مزاعمهم حول التاريخ العثماني، وهم يعتمدون في ذلك على أحد أساليب توجيه الرأي العام، وهو أسلوب التكرار والملاحقة في مخاطبة المشاعر لا العقل، ومع الاستمرار في الكذب والتلفيق يعتاد المُتلقي للمادة الإعلامية على مثل هذه الادعاءات، حتى تختلط في وجدانه بالحقائق وتصير منها. ولكن، لماذا الحملة الشعواء على التاريخ العثماني، التي تولّى كِبرها دول السعودية والإمارات ومصر؟ لماذا يركزون على الحقب العثمانية، رغم أنه قد حدث انفصال كبير للأتراك عن تاريخهم من بعد إسقاط الخلافة وبداية عهد أتاتوركي جديد؟ برأيي إن ذلك يرجع إلى سببين:
*السبب الأول: أن التاريخ العثماني يمثل حالة من التلاقح الحضاري بين العرب والأتراك، التقاءً على عامل ديني مشترك وهو الإسلام، ولا يزال هذا البعد هو أساس التقارب بين الطرفين، رغم بزوغ النزعات القومية وما تبعها من شقاق، لكنه ما إن يُذكر الأتراك حتى تجد حضورا للتاريخ العثماني في الذهنية العربية، وبناء على ما سبق، فإن الحكومات المعادية لتركيا يهمها تكوين صورة نمطية سلبية عن الأتراك في وجدان العرب، وفصم هذا التلاحم الثقافي حتى يصل الأمر بالشعوب العربية إلى أن تعتبر تركيا هي العدو الأكبر.
هذه الدول التي تسعى لضرب تركيا، تدرك جيدًا أن إحياء التاريخ العثماني وربط الأتراك بتاريخهم، هو أحد الملامح البارزة لمشروع النهضة، الذي تعمل عليه الحكومة التركية بقيادة أردوغان، وهو الأمر الذي يعد منفذا لهم في مزيد من الانفتاح على الشعوب العربية، وجعلها مجالًا حيويا لتركيا العثمانية، بدلا من الاتحاد الأوروبي، فلنا أن نتخيل التأثير الذي يُلحقه تشويه التاريخ العثماني في الشعوب العربية والشعب التركي معًا، على اعتبار أن هناك شرائح في المجتمع التركي معارضة لـ(عثمنة) الأتراك.
*السبب الثاني: يتعلق بتشويه الحياة العسكرية العثمانية، والاستفادة من ذلك بالإسقاط على التحركات العسكرية التركية في سوريا وليبيا. فالمنصات الإعلامية لهذه الدول عملت على إضفاء صفة المحتل على العثمانيين والطرْق على هذا الوصف ليل نهار، وذلك بغرض التنبيه على أن تدخل تركيا عسكريا خارج حدودها، هو احتلال مماثل ينطلق من أطماع توسعية لأردوغان، لإحياء حلم الخلافة العثمانية وفق مزاعمهم. كما عملت على تشويه الشخصيات العسكرية العثمانية لخلق صورة ذهنية سيئة للعرب تجاه الجيش التركي، من خلال التركيز على روايات تاريخية ليس لها سند يوثق به، فلا مانع من اتهام فاتح القسطنطينية بقتل أخيه الرضيع لئلا ينازعه في ملكه، ولا مانع من اتهام الوالي العثماني على المدينة فخر الدين باشا باعتزامه نبش قبر الرسول، اعتمادًا على وثيقة فرنسية مزعومة لم يستطع المروجون لها تقديم نسخة منها إلا كلاما متداولا، لا يسمن ولا يغني من جوع.
إننا مع الإقرار بأن التاريخ العثماني فيه صفحات من الظلم والجور، شأنه كشأن سائر الممالك والإمبراطوريات، إلا أنه لا يصح بحال أن تُحاسب الشعوب الآن على ما ارتكبه الآباء والأجداد، فلم يُحمِّل أحدٌ الشعب الإيطالي جرائم الإمبراطورية الرومانية، ولم يُحمِّل أحد الشعب الإنكليزي جرائم الاستعمار البريطاني، ولم يحمِّل أحد الشعب الفرنسي فظائع نابليون بونابرت، وهل يُحاسب المصريون على استبداد الفراعنة؟ وهل يحاسب العراقيون على طغيان النمرود؟
لكن الأمر كما أسلفت، فجور في الخصومة، ومحاولات لتركيع تركيا لمواقفها من الربيع العربي والثورات المضادة، وعدم التزامها حدود المظلة الأمريكية.
وحقيقةً لم أرَ كتركيا دولة لها أعداء بهذا الحجم، أمريكا تعاديها في الخفاء وتمارس معها الخديعة، وروسيا تعمل على إنهاء وجودها في سوريا، والاتحاد الأوروبي يلفظها ويتخوف منها، وإيران تحاربها بشكل غير مباشر، ودول عربية تجهر بعداوتها، وتمول ضرب استقرارها، وجماعات إرهابية تستهدف أمنها في الداخل وعلى الحدود، وهي مع ذلك تشق طريقها بقوة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(المصدر: ترك بوست)