مقالاتمقالات مختارة

حتى لا يهلك العلم

حتى لا يهلك العلم

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، أما بعد:

من اللافت في عصرنا أنه كلما هلك عَلَم من أعلام التحـريف والضلال ممن أفنوا أعمارهم في تحريف أحكام الشريعة، والعبث بمُحْكَمَاتها، ظهر مَن يشيد بفكرهم (النيِّر)، واجتهادهم (المميز)، وأن هذا المنهج المنحرف الذي كان عليه هو طوق النجاة الذي يجب أن تسير عليه الأمة لتنهض من كبوتها وتعود إلى سالف مجدها.

ونحن هنا لا نتحدث عن شخص يخالفنا في رأي فقهي، أو موقف سياسي، أو تقدير مصلحي؛ وإنما عن شخص يتبنى ما ينقض أصول الشريعة ومُحْكَمَاتِها؛ فكيف يتحول مثل هذا الشخص عند بعض الناس إلى أن يكون رمزاً للعقل والفكر والتجديد؟

سيزداد عجبك حين تجد أن أكثر هؤلاء غير مدركين حقيقة لتفاصيل الاجتهاد الذي يثنون عليه ويشيدون به، ولهذا تجدهم ينكرون وجود مناقضة لأصول الإسلام، لأن لديهم من الجهل بأحكام الشرع، والجهل بحقيقة من يدافعون عنه ما يجعلهم يجمعون بين النقيضين.

هذه الظاهرة يجب أن تدق في وعينا جرس الإنذار بخطورة تمدُّد الجهل بأحكام الشرع بين طوائف كثيرة من المسلمين في عصرنا، بما يسهل معه تأثير الأفكار المصادمة للشريعة، وهذه الجهل لا يمكن أن يعالَج إلا بنشر العلم، وبث نور الوحي، بما يجعل المسلم في صيانة عن التأثر بمثل هذه الأفكار.

وهو يلفت نظرنا إلى حقيقة يجب أن ندركها جيداً، وهي أن ما نراه بدهياً من الأحكام والمقررات الشرعية والعقلية ليس بالضرورة أن يكون كذلك في وعي الجيل الناشئ من الشباب والفتيات، لأنهم لم يتلقَّوا جميعاً التعليم ذاته الذي تلقَّاه مَن قبلهم، وقد تعرضوا لعواملَ وظروفٍ لم يتعرض لها مَن قبلهم؛ فكون بعض القضايا هي من المسلَّمات البدهية التي تخفى على مسلم فلا يعني أن تبقى كذلك ما لم تُغـذَّى بالتذكير والتأكيد والتعليم مرة بعد أخرى.

فمن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها العلماء والدعاة، ويقع فيه المـربُّون من آباء وأمهات ومعلمين، هو ترك الحديث والتذكير ببعض الأصول والقضايا الكبرى بدعوى أنها بدهية لا يجادل فيها أحد؛ فلا حاجة للتذكير بشيء بدهي.

ونغفل عن قضية بدهية أيضاً، وهي أن العلم يبلى ويخْلَق؛ فما كان معلوماً في زمنٍ مَّا لا يستمر معلوماً في كل زمان؛ خاصة أنه قد استجد في عصرنا أمور تساهم في إضعاف هذه البدهيات، ومنها:

أولاً: موجة الشبهات والتشكيكات التي ما تركت شيئاً من أصول الإسلام لم تتعرض له؛ فاستمرار تلقي الشباب والفتيات لهذه التشكيكات سيؤثر في نفوس كثيرٍ منهم من حيث لا تشعر، فتهتز معها المحكمات وتتغير الثوابت.

ثانياً: ضخامة المؤسسات والأدوات التي تساهم في ترويج الأفكار المنحرفة، وتسعى في تغيير هوية المجتمعات المسلمة، وتنوُّع أساليبها، واستخدامُها للأسلوب غير المباشر في التغيير الثقافي؛ فيغرس في وعي الشباب والفتيات الكثير من القيم والمفاهيم الجديدة التي تحل بدلاً عن قيمهم الإسلامية الثابتة، أو تزاحمها تدريجياً، ولا تجد في المقابل لدى كثيرٍ من هؤلاء الشباب والفتيات من العلم القوي واليقين الجازم والوعي اللازم ما يصد عن نفسه تمدد هذه الآثار.

ثالثاً: ومع قوة موجة التحـريف، واعتمادِها على مؤسسات ضخمة، عظيمة التأثير، يقابل هذا ضعفُ المؤسسات والأدوات التي تساهم في نشر العلم بالله، وبكتابه، وتوضح أصول الشرع، وتجلِّي دلائله، وتزيل الشُّبه عن الأصول والمحكمات، ولا يعني هذا الانتقاص من الجهود القائمة، فثم جهود مشكورة مأجورة، لها أثر عظيم ونفـع كبير، لكنها دون المأمول بكثير، وجهود أصحابها لا تكفي، ما لم تقم الأمة بواجبها الكفائي في نشر العلم الذي يحفظ عليها دينها.

إن أول خطوة في هذا الوعي يجب أن تبدأ بتذكير كل مسلم بواجبه في صيانة الدين من هذا التحريف، فالوجوب هنا يتعلق بكل مسلم بعينه؛ فما دام أنه مسلم يحب الله ورسوله، ويعظِّم شرائع دينه، فيجب أن يكون هذا داعياً له لأن يستحضر واجبه، فيكفي أنك مسلم، ولا يختص هذا الواجب بفئة معيَّنة من الحكام أو العلماء أو الدعاة أو غيرهم، لأن هذا أمر يتعلق بأصول الإسلام، وهو ما يجب أن يحرك همة كل مسلم.

البداية من هذا الوعي تعني أن تعتني الأسرة المسلمة بواجب تعليم أولادها أحكام الدين تعليمـاً صحيحاً، قائماً على الاهتمام به، وتعظيم شرائعه، وتربيتهم على الالتزام به، وتعليمهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وسيرته، وتاريخ خلفـائه، وبث روح الاعتزاز بالدين، والاستغناء به، والاستعلاء عن أي ثقافة أو هوية منافية له.

يجب أن يكون المربي (الأب والأم) مدركاً لواجبه في التعليم والتربية التي تحمي أولاده من الوقوع في حمأة الجهل الخفي بأصول الشريعة بما يسهل معه لاحقاً التأثر بأي دعـوات مصادمة لأصول الشريعة، وأن لا يعتمد في ذلك على إعلام أو مناهج دراسية أو غير ذلك، بل يكون مستحضراً لمسؤوليته الشرعية في أن يحمي ذريته.

استحضار هذه المسؤولية الشخصية تجعل كل مسلمٍ يساهم في تعليم مَن يعرف بعض أحكام دينه، ينصحهم، ويصحح أفكارهم، ويبين لهم بحسب جهده، فمسؤولية بيان الدين، ونشره، ودعوة الناس إليه، والمحافظة على أصوله هي مسؤولية كل مسلم.

إذا تحقق هذا فكل ما بعده فهو ميسور، فثم أمور كثيرة يجب العناية بها، ومنها:

1- ضرورة العناية بالبرامج العلمية المركزة التي تحرص على تخريج كفاءات علمية من الشباب والفتيات في تقديم خطاب شرعي قوي يواجه الأفكار المنحرفة ويدفع الشبهات عن الأصول والمحْكَمَات الشرعية.

2- أهمية السعي لنشر دروس العلم، وفتاوى العلماء، واستغلال كل وسيلة في ذلك؛ فالعلم لا يموت كما قال السلف إلا حين يكون سراً.

3- تعزيز العناية بالقرآن الكريم، قراءة وتدبراً وتفسيراً واستنباطاً، وتشجيع حفظه، وتحفيز الناشئة على حفظ القران؛ فالعناية بالقرآن هي أعظم ما يصون المسلم من الانحراف.

إلى أمورٍ كثيرة، فكل أمر يسعى إلى بث علم نافع، أو حثٍّ على عمل صالح، أو تصحيح سلوك، أو تقويم رأي، أو توجيهٍ نحو خير، فهو مما يساهم في تعميق الحِفاظ على الأصول والمحكمات، لكن يبقى التحدي الحقيقي في كيفية جعل هذا الأمر همّاً عميقاً في نفس كل مسلم، يحرص معه على أن يعلِّم ويتعلم، وينصح، ويوجِّه، ويدافع، ولا يلقي باللوم على غيره.

التحدي في أن يكون عميقاً في نفس كل أبٍ وأم، يحرصون على تعميقه في نفوس أولادهم كما يحرصون على تغذيتهم ونظافتهم ومصالحهم الدنيوية، لتكون صيانة دين أولادهم لا تقل أهمية عن صيانة دنياهم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْـحِجَارَة} [التحريم٦].

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى