حاجة الأمة إلى مراكز التفكير والبحوث
بقلم د. حسان عبدالله حسان
تشير الحالة الحضارية لواقع الأمة إلى غيابها عن القيام برسالتها من حيث الأداء والتبليغ، وغيابها عن الحضور والشهود، وأن حالة التراجع الحضاري إنما هي بالأساس لغياب الأمة عن اتباع السنن، وتخلفها عن إدراك قوانين الحياة الصالحة والفاعلة.
إن نقطة البدء للصعود الحضاري مرة أخرى لا تكون إلا بمثل نقطة البدء الأولى؛ «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»[1]، و«إن نهضة مجتمع ما تتم في الظروف العامة نفسها التي تم فيها ميلاده، كذلك يخضع بناؤه وإعادة هذا البناء للقانون نفسه»[2]، لذلك فإن العلاج المناسب لأزمة أمتنا هو إصلاح «عالم الأفكار» الخاص بها، وإعادة تشغيل أدواته الفاعلة والبحث عن الأفكار الحية فيه من خلال مراصد التفكير التي تمتلك الوعي الحضاري بأمتها.
ونركز هنا على فعل حضاري أنتجته الأمة وأبدعته في مجالها الحيوي الحضاري، وهو «مراكز التفكير والبحوث» والتي كانت أداة فاعلة، ومظهراً علمياً غير مسبوق، تناغمت مع حالة «الفكرة» وقيمتها في المجتمع الإسلامي آنذاك. إن «مراكز التفكير» – كما تشير إليها الأدبيات المعاصرة – هي المستودع لعقل الأمم، ومخزن أفكارها النابض بالحياة، ورصيدها الذي ينبغي أن لا ينفد، لاسيما تلك الأمم صاحبة الرسالات السماوية، فأفكارها الباعثة والصالحة خالدة بخلود كتبها ورسالتها، ولكنها تحتاج إلى استخراجها واستنباطها من جديد، وفقاً لروح العصر ومستجداته.
وتقوم مراكز التفكير في العالم المعاصر بعدة وظائف أهمها:
إجراء الأبحاث والدراسات وتقديم التحليلات المعمقة والمنهجية حول القضايا والمشكلات التي تواجه السياسة العامة.
دعم صناع القرار بالمعلومات اللازمة ووجهات النظر الإستراتيجية.
إشاعة روح البحث العلمي والتعامل مع القضايا بموضوعية وتعميم ثقافة البحث والتحري والاستدلال.
تقديم المشورة والنصح لأجهزة الدولة.
تدريب جيل من القيادات الفكرية والسياسية لتسلم الإدارات السياسية العامة للدولة.
بلورة مواقف ومصالح الأمة المشتركة، وتجسيد ذاكرتها الجماعية وتنمية قدراتها التراكمية في مجالات الفكر والسياسة والإعلام[3].
عرض المنجز الفكري والحضاري للأمم[4].
مراكز صناعة الأفكار والأهداف والوسائل التي تخص السياسة الخارجية، وإعداد السبل لتحقيق المصالح واختيار أفضل وسائل التطبيق وكسر الحواجز بين العمل الأكاديمي النظري والعمل السياسي التطبيقي لصناع القرار.
نشر الوعي الثقافي بين أفراد المجتمع بأهم القضايا الدولية، ويتم ذلك عن طريق كتابة المقالات والدراسات بالصحف الكبرى وإصدار الكتب والدوريات والوسائل الإعلامية الأخرى[5].
وبصفة عامة يمكن أن نلاحظ أن مراكز التفكير والبحوث تحمل معنيين أو مفهومين من حيث الضيق والاتساع:
المفهوم الأول (الضيق): الذي يشير إلى أن هذه المراكز تتوجه في عملها الفكري إلى صاحب القرار السياسي والاقتصادي والعسكري وفقط.
المفهوم الثاني (الواسع): وهو المعنى الواسع والأكثر عمقاً وشمولاً لهذه المراكز والذي يشير إلى أنها تتوجه في عملها الفكري المنظم لكل ما يتصل بحياة المجتمع: السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، التربوية، التعليمية، العلمية وغيرها؛ بهدف تحقيق تطور وتغيير مجتمعي حقيقي، وتحت هذا المعنى تدخل المراكز الثقافية التي تساعد على تشكيل عقل الأمة، والمراكز البحثية التربوية والتعليمية، والمعرفية، التي تأسست لخدمة قضايا بعينها من خلال اتباع سياسات علمية ومنهج علمي يدل عليه إنتاجها الفكري. وهذا المفهوم الثاني يمثل «الوظيفة الحضارية» لمراكز التفكير والبحوث باعتبارها مستودعاً تستودع فيه الأمة عقولها لتلبية احتياجاتها المختلفة، وهو المعنى الذي نرجحه هو، ويتفق مع تاريخية هذه المراكز في الحضارة الإسلامية وكذلك في الواقع الغربي المعاصر.
وفي ما يتعلق بالوظائف الحيوية لمراكز التفكير والبحوث – والتي يشير إليها عدد من الأدبيات – وأهمها وظيفتا «التنمية» و«التحديث»، فإن المجتمع العربي الإسلامي في حاجة إلى تبني هذين المفهومين وفقاً لرؤيته الحضارية التي تبنى على الجمع بين «الشهود» و«الغيب»، أي إن مفهوم التنمية، والذي يراه البعض على النمط الغربي مرادفاً لمفهوم «التحديث على النمط الغربي»، لم يجد البيئة المناسبة له خلال أكثر من قرن من الزمان، لأن أفكاره لم تنبت في هذه الأرض. ومن ثم فإن «التنمية» بمفهومها الحضاري العربي الإسلامي تصبح هي المجال الحيوي لعمل مراكز التفكير. إن الأمة وقعت في أسر مشروع تغريبي لأكثر من قرن من الزمان فشلت فيه كل محاولات حركتها الحضارية، وأمتنا العربية الإسلامية ليست مشكلتها في الوسائل ولا في الآلات والمادة. وإنما في ذلك الإنسان الذي غابت عنه فكرته الحضارية فغاب عن الحضور والشهود. وهذا هو المفهوم الأسمى للتنمية في مفهومنا الحضاري وهو يتوافق مع ما نراه في مفهوم التخلف الذي هو ليس تخلفاً عن الصنائع والآلات وإنما تخلف عن أداء الرسالة وإبلاغ الأمانة، وهذا الأول تابع للثاني، فوعي الإنسان المسلم بمكانه ومكانته ودوره ووظيفته وحقيقة رسالته هو الأصل في عملية التنمية، فحينما علم ووعي ذلك كان إعمار الكون مقصداً لعمره الذي أفناه فيه انطلاقاً من وعيه بحقيقة وجوده.
فمراكز التفكير والبحوث مجالها الحيوي هو ذلك الوعي الحضاري للفرد والمجتمع والأمة على السواء، حتى وإن كانت تتخصص في السياسة فقط أو الاقتصاد فقط… وهكذا فإن وعي الأمة الحضاري، والوعي بنموذجها المعرفي التوحيدي ينبغي أن يكون منطلقاً ومستهدفاً في أداء وظيفتها وحركتها البحثية الحضارية. «إن الإنماء الاقتصادي لن يتحقق إلا ضمن حركة حضارية تشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية، ولا يمكن لهذه الحركة الحضارية أن تتحقق إلا بشد الفرد والجماعة إلى مثلٍ أعلى أي الحق المطلق، وهذا الانشداد يكون أولاً بإزالة العوائق التي تحول دون اندماج الأمة بعقيدتها وإيمانها وعواطفها وتاريخها وشخصيتها الحضارية والذاتية»[6]. «إن العالم الإسلامي ليس بيده أن يغير أوضاعه الاقتصادية أو التنموية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تفتق أبعاده النفسية الخاصة به… فالقضية بالنسبة للعالم الإسلامي ليست قضية إمكان مالي، ولكنها قضية تعبئة الطاقات الاجتماعية، أي الإنسان والتراب والوقت في مشروع. تحركها إرادة حضارية لا تحجم أمام الصعوبات، ولا يأخذها الغرور… ولا ينتظر العمل بها حقنة من العملة الصعبة، ولا أي مشروع من خارجها»[7].
والمستقرئ لحالة الأمة العربية والإسلامية ومراكز التفكير والبحوث فيها، يلاحظ تدني الاهتمام، وغياب الدور الفاعل والحيوي فيها، إلا في نطاق محدود، ربما لا يمتد إلى حركة التغيير المجتمعي فيها بما يعكس بشكل واضح حالة التراجع الذي تعيشه الأمة، ففي قراءة للتصنيف الصادر عن معهد لورد في يناير 2015م حول مراكز التفكير عن سنة 2014م يسجل أحد الباحثين في ما يتعلق بالشرق الأوسط الملاحظات التالية[8]:
الأولى: الحضور الصهيوني القوي في هذا التصنيف، وهو يعود في جانب منه إلى الاعتراف الرسمي والمؤسسي والعلمي في الكيان الصهيوني بدور مراكز التفكير، التي تلعب دوراً مشابهاً لما تلعبه تلك المراكز في أوربا وأمريكا[9].
الثانية: الحضور المتفوق لمراكز دراسات أمريكية لها فروع في المنطقة العربية (مثل: بروكينجز، وكارنيجي، وراند).
الثالثة: أن هذه النتائج – التي أفرزها هذا التصنيف – تعكس حالة الضعف وغياب الدور الذي تعاني منه مراكز التفكير العربية والإسلامية، كما تعكس حالة التخلف الذي تعاني منه أمتنا.
نخلص من هذا العرض والتحليل حول مراكز البحوث والتفكير في العالم العربي والإسلامي إلى ما يلي:
أن مراكز التفكير والبحوث تقوم بدور الممول الفكري والذهني لنهضة الأمم والشعوب، وأن وجودها وفاعليتها مؤشر على حركة المجتمع، وغيابها أو انعدام فاعليتها مؤشر على سكونه وركوده. وإذا كان وجود المراكز الفكرية يمثل ظاهرة غنى في البناء الفكري في أي مجتمع، فإن مجتمعات العالم الإسلامي مجتمعات فقيرة فكرياً إلى حد كبير. والحاجة ماسة إلى إنشاء كثير من هذه المراكز الفكرية المتخصصة؛ فهذه المراكز تستطيع أن تؤدي دوراً مهماً في توليد الأفكار وتطويرها من خلال المشاريع البحثية الجماعية؛ بالإضافة إلى أنها توفر أساساً معرفياً لاتخاذ القرارات المناسبة أو تزويد متخذ القرار بالمسوغات اللازمة لاتخاذ قراره»[10].
إن مراكز التفكير لها دور حضاري بمفهومها الواسع، وهو أعم وأكثر شمولية من الدور أو الوظيفة السياسية – الذي اقتصرت عليه كثير من الدراسات والتوجهات العلمية – برغم أهميتها ومحوريتها المعاصرة.
أن المشروع النهضوي العربي الإسلامي يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى إيجاد مثل هذه المراكز وتفعيل دورها، وإزالة العقبات أمامها، وتوفير المناخ الملائم لعملها في حركة الأمة العربية الإسلامية.
تؤكد الدراسات السابقة – أيضاً – على التدني الواضح إلى درجة الغياب لمراكز التفكير والبحوث في عالمنا العربي نظراً لعوامل سياسية واجتماعية متعددة، وغياب فاعليتها الفكرية والسياسية على السواء، نظراً لضعف الاهتمام أو عدم الاعتراف بدورها المركزي والمحوري في تحقيق نهضة وتقدم المجتمع.
أن هناك تفوقاً واضحاً لمراكز الأبحاث وتفعيل دورها في المشروع الصهيوني، المقابل للمشروع العربي الإسلامي، وهو ما له شواهد عديدة في واقع الصراع العربي – الصهيوني[11].
صاحب التدني في وظائف وفاعلية مراكز التفكير في العالم العربي هجرة للعقل العربي إلى الغرب الأوربي والأمريكي، نظراً للمناخ الطارد له في وطنه، والجاذب عند الغرب، بما يلقى مسؤولية وتبعة على الإرادة العربية المعاصرة في محاصرة هذه الظاهرة الخطيرة على المستوى الحضاري والواقعي بتوفير المناخ الملائم لهذا العقل وتذليل الصعوبات أمام عمله الفكري الحضاري.
نخلص في نهاية هذه الفكرة إلى الدعوة إلى ضرورة إعادة نظر الأمة وتأملها في مؤسسات صناعة الأفكار مرة أخرى لتلحق ما فاتها، وتستطيع مواجهة التحديات الحاضرة وتجاوزها لتحقيق البعث الحضاري المنشود وتحقيق عالميتها الثانية المرجوة.
القضية بالنسبة للعالم الإسلامي ليست قضية إمكان مالي، ولكنها قضية تعبئة الطاقات الاجتماعية، أي الإنسان والتراب والوقت، في مشروع.
[1] مقولة للإمام مالك.
[2] مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، القاهرة، دار السلام، ط9، 2012م، ص76.
[3] مراكز التفكير أو بنوك التفكير، موقع شذرات، مرجع سابق ص2.
[4] عصام عبد الشافي: المراكز البحثية ودورها المفقود في الإستراتيجيات العربية، بوابة كنانة أون لاين، 25/1/2011م.
[5] محمد السعيد إدريس: مستقبل دور مراكز الدراسات والمعلومات الوطنية في الصراع حتى عام 2015م، مرجع سابق.
[6] محمد علي آذر شب: «الحضارة والتنمية الاقتصادية في المنظور الإسلامي» طهران، فصيلة إيران والعرب، العدد 17 – 18، ربيع 2007م، ص60.
[7] مالك بن نبي: المسلم في عالم الاقتصاد، القاهرة، دار السلام، ط11، 2014م، ص71.
[8] محسن صالح: «قراءة في التصنيف العالمي لمراكز التفكير»، الجزيرة نت، 4/4/2015م، www.aljazeera.net .
[9] هبة جمال الدين محمد: دور مراكز الفكر في صنع السياسة العامة: دراسة حالة إسرائيل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2015م.
[10] فتحي حسن ملكاوي: البناء الفكري.. مفهومه ومستوياته وخرائطه، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2015م، ص266.
[11] انظر في هذا الصدد: صقر أبو فخر: «مؤسسات التفكير والمشورة ودورها في صنع القرارات الإسرائيلية»، بيروت، مجلة الغدير، العدد 44، خريف 2008م، ص111.
(المصدر: مجلة البيان)