مقالاتمقالات مختارة

حاجة الأمة إلى القرآن الكريم

حاجة الأمة إلى القرآن الكريم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

إن المشاهد لواقع الأمة الإسلامية اليوم ليرى أنها تعيش في زمانٍ أعرض فيه كثيرٌ من أفرادها عن القرآن الكريم، إذ إنَّ صلتَهم بكتاب ربهم يكتنِفها الهَجر والعقوق، وذلك بسبب الغياب القلبي والضعف المعرفي، فهي لم تحمل هم فهمه؛ لأنها صيرته كتاب قراءة ولم تصيره كتاب تدبر وعمل، وإنه من التقصير البين أن تكون صلة الأمة بالقرآن مجرد التلاوة، ولا تتعدى ذلك إلى فهمه وتدبره والاتعاظ بما فيه!

فهل تريد أن تسلك مسلك من ذمهم الله من الأمم السابقة؟! حيث جاء ذمهم بأبشع الأمثال، كما في هذا التصوير القرآني البليغ: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْـحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [الجمعة: ٥]، فشبه سبحانه وتعالى تالي القرآن من غير أن يفهمه بالحمار يحمل أسفاراً، فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا ثم لا يفهمه ولا يعمل بما فيه[1].

وإنَّ الأمة اليوم في زمن كثرت فيه البدع، وتلاطمت فيه الفتن، وتحكمت فيه الشهوات، وتغيرت فيه المبادئ  والمعتقدات؛ لهي أحوج ما تكون إلى الرجوع إلى كتاب ربها جلَّ في عُلاه.

وإنه لا خَلاص من هذا المستنقع الآسن الذي تعيش فيه الأمة على جميع الأصعدة؛ إلا بأن يتجه أفرادها جميعاً، شعوباً ودولاً، رجالاً ونساءً، علماء وعامة، اتجاهاً صحيحاً بكامل أحاسيسهم ومشاعرهم، بقلوبهم وقوالبهم، إلى كتاب الله علماً وعملاً.

 وذلك لأن الرفعة والكرامة، والعزة والسيادة، إنما هي لحملة القرآن العاملين به؛ كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»[2].

والقرآن الكريم إنما نزل ليكون هداية للأمة في جميع شؤونها، فهو يهدي للتي هي أقوم في كل شيء: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْـمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِـحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: ٩]، ففي هذه الآية الكريمة أجمل الله جلَّ وعلا جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة[3].

فالقرآن معتصَم هذه الأمة في جميع أحوالها، وهي بحاجة ماسة إلى فهمه والعمل به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «حاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن»[4]، يُبين ذلك المعالم الآتية:

أولاً: أن كتاب الله فيه هداية لمن أراد السير على الصراط المستقيم، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]، فالقرآن روحٌ ونور: روحٌ للحياة ونورٌ للطريق، فهو حياة للأمة، ونور لطريقها؛ لأنه يخرج من ظلمات الشرك والكفر والجهالة والعصيان، إلى نور الإيمان والعلم والطاعة[5].

ثانياً: أنَّ هذا القرآن كتابُ حكمٍ وتشريع، يشملُ جميع شؤون الحياة، يشملُ الأمور العبادية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.. إلخ، كما في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ مُصَدِّقًا لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعاً كلياً في الغالب، وجزئياً في المهم، فقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] المراد بهما إكمال الكليات؛ لأنه على اختصاره جامع، ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله[6].

ثالثاً: أنَّ هذا القرآن كتاب عقيدةٍ خالصة صافية، فيه البيان الحق لكلِ ما وراء الغيب؛ مما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، وما يتعلق بخلقه للسماوات والأرض والإنسان ونشأته، وما يتعلقُ بالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وما يتعلق بما يضاد ذلك من الكفر والشرك والنفاق، ودلائل الربوبية والألوهية والنبوات، وإعجاز هذا القرآن، كما قال الله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 43 وَإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43، 44].

رابعاً: أنه كتاب عبادة، يتعبد الإنسان بقراءتهِ وتلاوتهِ وحفظه، ويتقرب إلى الله تعالى بذلك، فهو نورُ قلوب العارفين، ومشكاة طريق العابدين، يتلونه آناءَ الليل وأطراف النهار، يعلمونه ويتعلمونه، وهو ميسر لمن أقبل عليه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17].

خامساً: أن القرآن حبل الله المتين في مواجهة أعداء الإسلام المتربصين بأمة الإسلام، الذين لا يدعون وسيلةً في حربها إلا سلكوها، فهذا القرآن يعلمُ الأمة حقيقة المعركة مع عدوها، ويبينُ لها أهدافها الحقيقية من جانب أعدائها، ثم هو يمدها بوسائل النصر وأسلحة الجهاد باللسان والبيان وبالسنان، وفي قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] قال قتادة: حبل الله المتين الذي أمر أن يُعتصم به هذا القرآن[7].

سادساً: أنَّ القرآن حق وصدق نزل من عند الله الحكيم الخبير: {وَإنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: ٦]، لذا فيه لفتات عظمى في نواحٍ متعددة: علمية وطبية واجتماعية ونفسية، وغيرها لحياة البشر جميعاً.

سابعاً: أن في التمسك بهذا الكتاب ضماناً للأمة من الضلال الفكري والأمني، قال صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللَّهِ»[8]، وهذا ملاحظ فلما كانت الأمة معتصمة بكتاب ربها؛ كانت لها السيادة والريادة على الأمم والحضارات.

ونختم هذه الافتتاحية بكلام غيور للعلامة محمد الأمين الشنقيطي بيَّن فيه أعظم ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم، وأنه بحاجة ماسة للرجوع إلى كتاب الله، فيقول: «ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها.

ونحن دائماً في المناسبات نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات، هي من أعظم ما يعانيه العالم في جميع المعمورة ممن ينتمي إلى الإسلام، تنبيهاً بها على غيرها:

المشكلة الأولى: هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العَدد والعُدد عن مقاومة الكفار، وقد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها؛ فبين أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى، وقوة الإيمان به والتوكل عليه؛ لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء، فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا.

المشكلة الثانية: هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء، مع أن المسلمين على الحق والكفار على الباطل.

وهذه المشكلة استشكلها أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فأفتى الله جل وعلا فيها، وبين السبب في ذلك بفتوى سماوية تتلى في كتابه جل وعلا. وذلك أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين يوم أحد استشكل المسلمون ذلك وقالوا: كيف يُدال منا المشركون؟ ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فأنزل الله قوله تعالى: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].

وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} فيه إجمال بينه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152]، إلى قوله تعالى: {لِيَبْتَلِيَكُمْ}.

ففي هذه الفتوى السماوية بيان واضح لأن سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشل المسلمين، وتنازعهم في الأمر، وعصيانهم أمره صلى الله عليه وسلم وإرادة بعضهم الدنيا مقدماً لها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

المشكلة الثالثة: هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية؛ لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة، كما قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، فترى المجتمع الإسلامي اليوم في أقطار الدنيا يضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء، وإن جامل بعضهم بعضاً فإنه لا يخفى على أحد أنها مجاملة، وأن ما تنطوي عليه الضمائر مخالف لذلك.

وقد بيَّن تعالى في سورة «الحشر» أن سبب هذا الداء الذي عَمت به البلوى إنما هو ضعف العقل قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]، ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدراك الحقائق، وتمييز الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن من القبيح لا دواء له إلا إنارته بنور الوحي؛ لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتاً، ويضيء الطريق للمتمسِّك به»[9].

اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، يُعزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.

[1] ينظر: الحوادث والبدع، للطرطوشي المالكي ص101.

[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، حديث رقم 1934.

[3] ينظر: أضواء البيان (2/218).

[4] مقدمة في أصول التفسير ص2.

[5] ينظر: أضواء البيان (2/234).

[6] ينظر: التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور التونسي (ت: 1393هـ).

[7] جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري (7/73).

[8] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر، حديث رقم (3009).

[9] أضواء البيان (2/241،240).

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى