جواهر التدبر (٢٩٧)
مقومات الوعي الجمعي(٧)
بقلم أ.د.فؤاد البنا
– تدبر القرآن الكريم:
من يتأمل حقيقة التدبر في القرآن الكريم فسيجد أن له دورا مؤكدا في انسجام شخصية المؤمن وتكاملها: عقلا وقلبا وروحا وجسما، وانسجام الشخصية يلعب دورا أساسيا في أن يصبح المرء ذا وعي جمعي وصاحب شخصية وحدوية، وبالعكس فإن من تفرق شمله وانفصمت جوانحه لا يمكن أن يكون خلية حية في جسم أمته؛ ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، كما يؤكد المنطق العقلي.
وإذا أردنا توضيح هذه الحقيقة فسنقول بأن الإنسان كائن يحتوي على الكثير من التناقضات؛ نتيجة خلقته المزدوجة من مكونين مختلفين هما التراب والروح مع تعدد العناصر الداخلة في مكون التراب. وإن لم يخضع لتعاليم الخالق كافة فإن أفكاره وأفعاله ستشهد الكثير من التناقض والتباين وقد تصل إلى التصادم والتآكل التامين، فيتفرق شمله وتتمزق فاعليته.
ولا يمكن أن يخلو الإنسان من مفردات التناقض ما لم يستوعب المنهج القرآني بكامل مكونات جهاز الوعي الذي منحه الله إياه، فإنه وحده الكفيل بصهر التباينات الناتجة عن وجود استعدادات الفجور وملَكات التقوى في تركيبته البشرية المزدوجة، وهو القادر أيضاً على وصم شخصيته بالانسجام والاتساق. لكن القرآن لا يحقق هذه الغاية تلقائيا ويحتاج ممن يقرؤه أن يتدبر آياته؛ كما قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: ٨٢]، فإن كلام البشر يظهر فيه الاختلاف نتيجة التناقضات الثاوية في تركيبته العضوية والثقافية، وتغير مزاجه بتغير الظروف التي كتب فيها!
وبالتدبر المنضبط بالمنهج النبوي فإن القارئ يلاحظ التشابه اللغوي والتكامل المعرفي في القرآن؛ مما يسهم في صهر التباينات الثاوية في تركيبته الفردية، وإظهاره في مظهر الشخصية المنسجمة التي تتناسق أبعادها وتتسق مكوناتها بطريقة سلسة ومنسابة، مما يجعله صاحب فاعلية عالية في الحياة مهما يكن الثغر الذي يرابط عنده في صروح الحياة.
وسنظل نؤكد من غير كلل أن تّدبُّر القرآن وفق الضوابط المعروفة، طريقٌ موصل إلى توحُّد المسلمين، فمن يتدبر الآيات التي ورد فيها مصطلح التدبر سيلاحظ فيها أمرين:
الأول: أنها جاءت بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد الديمومة والاستمرار، كقوله تعالى: {أفلا يَتدبَّرون القرآنَ أَمْ على قلوبٍ أقْفالُها} [محمد: ٢٤]، وهذا يعني أن المرء كلما غفل عن التدبر وقع في سوء الفهم وظهرت في ذاته آفة الاختلاف.
الآخر: إسناد فعل التدبر إلى جمع المذكر السالم، كقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مباركٌ لِيَدَّبَّروا آياته وليتذكّرَ أولوا الألباب} [ص: ٢٩]، مما يَشي بأن التدبر يستطيع كشف عوامل الالتقاء وإبراز قواسم الاشتراك، ويستطيع اجتثاث عوامل الفُرقة وأسباب النزاع، ولذلك قال سبحانه: {أفلا يَتدبَّرون القرآنَ ولو كان من عندِ غيرِ الله لَوَجَدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: ٨٢]، ومن ثمّ فإننا عندما نَحْتسي رحيقَ التدبر فإننا نتخلَّص من ظمأ الفُرْقة!
وزبدة القول إن الفرد لما كان خلية في جسم الأمة أو لَبنة في جدارها، فإن تكامل عقله وقلبه، واستقامة جوانحه وجوارحه، علامةٌ فاصلة على أن تَوحُّد الأمة صار يسيراً جدا.
ومن المؤكد أنه لا ضمانة لتحقق هذا الأمر مثل تدبر القرآن، فإن حضور المَدارك في القراءة يملأ العقل بمشتركات الاتحاد، وإن انْسكاب موجات الخشوع على شغاف القلب يملؤه بدوافع الائتلاف.