جواهر التدبر (٢٩٤)
مقومات الوعي الجمعي (٤)
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– الإيمان بوجود حساب جماعي يوم القيامة بموازاة الحساب الفردي:
يسود اعتقاد راسخ بين أغلب المسلمين بأن الحساب يوم القيامة حساب فردي صرف، وهذا صحيح من زاوية أن كل إنسان سيسأله الله وحده عن ما اقترفت يداه ولن يسأل غير أو يسأله عن ما اقترفت أيدي غيره، ولن يؤاخذه على ذنوب أحد من الناس ما دام قد أدى ما عليه من واجبات.
وفي ذات الوقت يوجد بجانب الحساب الفردي والكتاب الفردي، حساب جماعي وكتاب جماعي لكل أمة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها..} [الجاثية: ٢٨، ٢٩]، والمقصود بالكتاب هنا كتاب أعمالها الجمعية، بدلالة وجود كتاب لكل فرد في العبادات الفردية والذي يأخذه المرء بيمينه أو بشماله، وبدلالة قوله عز وجل في نفس الآية السابقة: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون}، أي سيجازيكم الله على أعمالكم المسجلة في هذا الكتاب، ثم إنه عز وجل نسب تسجيل الأعمال إلى نفسه وليس إلى ملائكته؛ حيث قال في الآية التي تليها: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}، وكأنه تعالى بهذا الكلام يعظم خطر الخطايا الاجتماعية؛ لأنها تتسبب بسقوط الأمم والحضارات، وأضاف المولى سبحانه في الآيتين التاليتين للآية السابقة، قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين. وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين} [الجاثية: ٣٠، ٣١]، فكأنه عز وجل حين يذكر أنه سيُدخل المؤمنين وعاملي الصالحات في رحمته، فكأنه يشير إلى أنه سيعفو عن سلوكهم الفردي الذي حال دون تكوين الكتلة الحرجة الضرورية لإقامة الفروض الكفائية موضع التنفيذ، بينما سيؤاخذ الكافرين الذين داسوا على قيم العدل والحرية والمساواة والعلم والعمل؛ لأنهم جمعوا بين الكفر والإجرام، والإجرام هو النيل من القيم التي تعد مقومات للنهوض الحضاري، وكذا إهدار حقوق الإنسان!
ومما يؤيد هذا الاستنباط أنه تبارك ذكرُه أورد في موضع آخر بأنه يأتي بالشهود على الأمم الواقفة أمام كتب أعمالها الجمعية، وهم النبيون ومن يرثهم من العلماء وخاصة الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل أن تعيش مجتمعاتهم حياة كريمة، كما ورد في قوله عز وجل: {ووُضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء} [الزمر: ٦٩]، ويبدو أن جثيّ الأمم على ركبها والتصاقها بالأرض قرينة أخرى على اقترافها لخطايا التخلف الحضاري الذي جعلها ذليلة خاضعة لمن امتلكوا مقاليد القوة ومقومات الحضارة ممن لم يقعوا في هذه الآفات وإن كانوا غير مسلمين!
ولا شك بأن إبراز مثل هذه الومضة الثاوية في نصوص القرآن الكريم، يزيد من حساسية المسلمين تجاه المبادئ الاجتماعية والقيم الحضارية التي لا يولونها الاهتمام المطلوب، ويخفف من فرديتهم الطاغية، ويساعد في تخليصهم من داء السلبية الملاحظ بشدة في القضايا العامة، ويساعدهم على رؤية الخلل البادي في التمحور حول الخلاص الفردي الذي يتكئ على العبادات اللازمة بشكل أساسي، بحيث يضيف له البحث عن الخلاص الجماعي، مع امتلاك الإيمان بأن الخلاص الفردي لا يتحقق بصورة تامة من دون الخلاص الجماعي !