مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٨٤) .. تعدد الصواب(١)

جواهر التدبر (٢٨٤)

تعدد الصواب(١)

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– الذِّكْر بين التعجل والتأخر:
قال تعالى عن الحُجاج الذين وصلوا في مناسكهم إلى المبيت في منى ورمي الجمار: {واذكروا الله كثيرا في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} [البقرة: ٢٠٣]، أي فمن ذكَر الله تعالى ورمى الجمار وبات بمنى في يومين أو في ثلاثة أيام فلا إثم عليه، وبالطبع فإن لنزول الآية سببا استدعى نفي الإثم عن الطرفين وليس إثبات الأجر، لكن الله أراد أن يمنحنا برهانا على إمكانية تعدد الصواب في مسألة عبادية محضة، ليقول لنا إن تعدد الصواب من باب أولى في المسائل الاجتهادية المنبثة في مختلف الميادين المسؤولة عن عمارة الأرض وصناعة الحياة!
ويبدو أن تقييد هذه الإباحة بجملة (لمن اتقى) الواردة في الآية هي تأكيد على صوابية التعدد هنا؛ لأنه يتم في مسألة فرعية، ما دام هذا التعدد يتم تحت راية التقوى وهي عنوان جامع لمختلف الثوابت المعلومة من الدين بالضرورة؛ ذلك أن زبدة التقوى هي أن لا يجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وهذا منتهى الطاعة والالتزام العبادي الشامل!
ومن المؤكد أننا حينما نقول بتعدد الصواب فإننا لا نقول بالتساوي الحرفي في الأجر، وإنما بالتساوي تحت راية الصواب وانتفاء الخطأ، ويبقى التفاوت النسبي قائما في الأجور بحسب المعايير المعروفة والمذكورة في نصوص أخرى.

– النخيل بين القطع والترك:
جاءت الشريعة لتحقيق المصالح وتكميلها ولدرء المفاسد وتخفيفها، وقطع الشجر من صور الإفساد في الأرض. وكان بنو النضير قد احتموا من المسلمين في حصون منيعة لدرجة أنهم اعتقدوا معها أنها مانعتهم من الله نفسه وليس من المسلمين فقط!
وقد طال حصار المسلمين للحصن في ظل اختلال موازين القوى بين الطرفين، فالمسلمون في عراء الصحراء ومناخها القاري الذي ترتفع فيه حرارة النهار وتنخفض برودة الليل، وليس معهم أطعمة ولا مياه كافية ولا وقايات من هوام الصحراء بما فيها العقارب والأفاعي السامة، بينما يتنعم اليهود داخل بيوتهم المترفة والتي يحميها حصن منيع، وتوجد داخل الحصن واحة تزخر بالمياه والثمار الزراعية بجانب الأطعمة المخزنة، وهنا اشتغلت عقول المسلمين للبحث عن مخرج لهذا المأزق، ولا يزال الناس مختلفين حينما يُعملون عقولهم في قضايا ذات أبعاد وأوجه متعددة، فاقترح بعضهم القيام بقطع أشجار النخيل الصغيرة الموجودة خارج الحصن لدفع اليهود للقتال أو الاستسلام، فانقسم الجيش إلى قسمين:
الأول: بقي مع الأصل في الشريعة وهو عدم جواز قطع النخيل لأن هذا من صور الإفساد في الأرض.
الثاني: وافق على هذا المقترح معتقدا أن تقطيع الشجر مفسدة أصغر من بقاء المسلمين عرضة لأخطار الصحراء إلى أمد غير معلوم.
ولما كان أصحاب هذا الرأي أكثر فقد قامت قيادة الجيش بتبنيه فورا، ونجح هذا التكتيك في دفع بني النظير للتفاوض على الاستسلام. وبعد انقضاء الحدث كان الفهم السائد أن الفريقين قد اجتهدا، فأصاب أحدهما وأخطأ الآخر، فتساءلوا من المصيب فباء بالأجرين ومن المخطئ الذي حصل على أجر واحد، فنزل قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله}[الحشر: ٥]، أي أن الفريقين مصيبان ومأجوران، وكأن الذين بقوا على الأصل مأجورون من زاوية قلوبهم التي حرصت على الالتزام بالنصوص، بينما أجر الآخرون من زاوية عقولهم التي اجتهدت مداركها من خلال المقاصد الشرعية، فأفضى الحل إلى درء مفسدة كبرى بارتكاب مفسدة صغرى!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى