مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٧٥) .. آيات الله بين عطية التصريف وعقوبة الصرف

جواهر التدبر (٢٧٥)

آيات الله بين عطية التصريف وعقوبة الصرف

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– نعمة التصريف:
من خصائص النظم القرآني المتميزة ما سماه القرآن بالتصريف، وهو إيراد المعاني بأساليب متعددة والدخول على العقول والقلوب من مداخل متنوعة، واستخدام مختلف أساليب التأثير على الوعي والوجدان، كالقصص والأمثال والبراهين والمواعظ والوعد والوعيد، كما قال تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد..} [طه: ١١٣]، أي وزعنا الوعيد في مواضع عديدة وأتينا به بصيغ وأساليب متنوعة، بحيث يتأثر كل شخص بالأسلوب الذي يتناسب مع تكوينه الخاص.
وفي ذات الدرب قال عز من قائل: {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل…} [الكهف: ٥٤]، وتفيد عبارة {من كل مثل} بأن كل أنواع الأمثال المستخدمة في لغة العرب، وهي أعظم لغات البشر وأكثرها ثراء، موجودة في كتاب القرآن.
ولأن الله يعلم طبيعة خلقه فقد صاغ القرآن بهذه الطريقة المحكمة والمؤثرة، ولا بد لكل صاحب فطرة سوية أن يفهم عقله ويتأثر وجدانه بأساليب القرآن أو ببعضها، كما حدث ويحدث لكثير من منصفي الشرك وأهل الكتاب، ومن لم يتأثر عقله أو ينفعل قلبه وهو يتلو أو يسمع لآيات من القرآن  فإن خللاً كبيرا يسكنه وتسبّب بعدم وقوع التأثر المفترض، ومن هنا فقد عجّب الله رسوله الهادي من انصراف هؤلاء رغم تصريف الآيات لهم، كما في قوله عز وجل: {انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون} [الأنعام: ٤٦]، فالتصريف عطية رحمانية والصدوف داء يحمله المرء في ذاته فلا يلومن إلا نفسه!

– مقاصد التصريف:
أورد الله في قرآنه أن الغرض من تصريف الآيات تحقيق عدد من المقاصد، أهمها:
١- التفقه في دين الله، فكل أسلوب يضيف من المعاني والأسرار ما لا يوجد في غيره من الأساليب، وحتى في إطار الأسلوب الواحد فإن تأثيره يختلف، وينبع هذا الاختلاف من اختلاف عنوان السورة، وموضوعها، والسياق الذي ورد فيه الأسلوب، والطريقة التي صيغ بها، وهذا يُكسب المؤمن ثروة معرفية دقيقة ويحثهم في ذات الوقت على الاستفادة من منهجية التصريف القرآنية في دعوتهم وتأليفهم وإصلاحهم ومحاضراتهم وخطبهم ودروسهم، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون} [الأنعام: ٦٥]، بمعنى أن التصريف أرجى للفقه والوعي، وقد ذكر الله هنا (لعلهم) التي تفيد الرجاء لأن التصريف لا يعمل بطريقة آلية وإنما بحسب ما يبذل المرء من جهد في التفاعل معه وما يُخلي من مدارك لاستيعابه، وبحسب قوة ذكائه وتنوع مواهبه ووفق استعداداته النفسية والروحية!
٢- التذكر والانسياق: قال تعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذّكّروا..} [الإسراء:  ٤١]، لكن التذكر لا يحصل إلا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
٣- اكتساب التقوى: قال تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يُحدث لهم ذكرا} [طه: ١١٣]، ومع أن الذكر يتضمن الشعور برقابة الله التي تعصم من المعاصي كما التقوى، إلا أن التقوى أقوى من التذكر، ففي حالة التذكر قد ينسى المرء بعض ما يعرف تحت ضغط الشهوة أو العادة أو المصلحة، لكن التقوى إن حيزت صارت منهجا حازما يمنع المرء من ترك الواجبات ومن حضور المحرمات في كل الأحوال!
٤- الشكر: والشكر مبني على المقاصد السابقة، فمن رأى فوائد التصريف ولمس ثمارها اندفع إلى شكر المنعم بكل جوانحه وجوارحه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون} [الأعراف: ٥٨].

– عقوبة الصرف:
يمكن تعريف الصرف هنا بأنه شعور شخصي أو  رغبة ملحة بالابتعاد عن القرآن، وهو تيسير إلهي لانصراف من أرادوا الانصراف بملء إرادتهم، ويحدث ذلك لعدم وجود الأهلية لنيل هدايا القرآن وهداياته، وهذه أهم عوامل الصرف التي ذكرها القرآن نفسه:
١- الكبر:
قال تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض..} [الأعراف: ١٤٦]، والصرف هنا هو العمى عن رؤية الهداية المختفية وراء آيات الله المسطورة في كتاب القرآن أو المنظورة في كتاب الكون أو الثاوية في تركيبة الإنسان، ولا غرابة أن لا يرى المتكبرون هدايا الله، فهم يغمطون الناس حقوقهم ويبخسونهم أشياءهم، ويسيرون في الأرض مرحا ظانين أنهم سيخرقون الأرض ويبلغون الجبال طولا؛ مما يصرفهم عن رؤية هدايا الله!
٢- عدم تفعيل أدوات الفقه:
فقد خلق الله للإنسان جهاز وعي يستطيع عن طريقه أن يتعلم ويتفقه، لكن عدم إعماله يفقده وظيفته مع المدى تماما، ولذلك علل تعالى صرف بعض القلوب عن آياته فقال تعالى: {صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} [التوبة: ١٢٧]، أي لم يستخدموا عقولهم لفهم آيات ربهم.
٣- الانصراف والصدوف:
وهو الإعراض والميل والزيغ والابتعاد عن أنوار القرآن ونطاق جاذبيته، ولا يمكن أن يمنح الله هدايته لمن أعرض عنها ورفض استقبالها، قال تعالى: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} [التوبة: ١٢٧]؛ فالجزاء الإلهي من جنس العمل، حيث ييسر لهم ما يريدون فقط.

قناة الكاتب على التليجرام:
https://t.me/ProFB

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى