جواهر التدبر (٢٧٢)
ازدواج الجزاء في المعاش والمعاد
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– الثواب الدنيوي والأخروي:
حينما يتم ذكر الثواب الإلهي على العبادات أو بعضها، تذهب خيالات أغلب المسلمين إلى الثواب الأخروي فقط، وهؤلاء يشكلون تيارا عريضا انبنت تصوراته وتصرفاته على أساس الانسحاب الواعي أو غير الواعي من الدنيا إلى الآخرة، ويفسر هؤلاء سائر الآيات ذات الصلة بطريقة ترسخ هذا الاعتقاد وتعزز هذا الفهم المنقوص!
لكن القرآن الكريم يخبرنا في العديد من آياته أنه بجانب الثواب الأخروي يوجد ثواب دنيوي على الإيمان وعمل الصالحات وسائر العبادات، وقد جاء ذلك في معرض الرد على طالبي الثواب الدنيوي دون التفات إلى الثواب الأخروي، كما قال تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا} [النساء: ١٣٤]، فثواب الدارين ملك يمينه عز وجل، ومن حق البشر أن يختاروا لأنفسهم ما يريدون، والله مطلع عليهم فهو يسمع أقوالهم ويبصر أفعالهم!
– الاقتران الشديد بين الدنيا والآخرة:
حينما نفتش عن الخصائص العامة للإسلام سنجد أن التوازن قيمة حاضرة في تكوين الذات الفردية والأسرية والاجتماعية، وهناك توازن بين الحقوق والواجبات، وتوازن بين كثير من الثنائيات الجدلية في الفكر الديني والبشري، ومنها ما نحن بصدده هنا وهو التوازن بين الدنيا والآخرة.
ولأن القرآن الكريم أحكمت آياته من لدن حكيم خبير، وصاغه من خلق البشر ويملك العلم المطلق بتركيباتهم وطبائعهم وبكل الموجودات في الأرض، فإن القرآن يقيم توازناً صارما بين الدنيا والآخرة، وما يثير اندهاشنا في هذا الشأن أن التوازن بين الدنيا والآخرة في القرآن وصل إلى حد التساوي التام في عدد مرات ذكر كل اسم، فقد ذكر اسم الدنيا ١١٥ مرة وذكر اسم الآخرة ١١٥ مرة، وفي مرات كثيرة يتم ذكر الاسمين متجاوربن مع تقديم الدنيا دوما على الآخرة لأنها دار العمل وتلك دار الجزاء، مع وجود إشارات مبثوثة في ثنايا القرآن إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن العروج إلى فردوس السماء يتم عبر فردسة الأرض وفق تعاليم الكتاب الذي أخبر جل في علاه بأنه يهدي للتي هي أقوم، وبالطبع فإن هذا ينطبق على كل ميادين الحياة وشؤونها!
– الثوابان الدنيوي والأخروي:
ذكر الله في مواضع عديدة من القرآن أن عقابه للظالمين من الكفار يتم في الدنيا والآخرة (مثل: آل عمران: ٥٦)، وأنه يحبط أعمالهم في الدنيا والآخرة (مثل: آل عمران: ٢٢).
وفي المقابل قال عن صنف من المؤمنين: {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} [آل عمران: ١٤٨]، ومع أن كلمة الثواب تعني الأجر الذي يفوق العمل بكثير، فإن إضافة كلمة حسن قبل الثواب الأخروي دون الدنيوي لفتة مهمة إلى أن قانون الثواب الدنيوي يقوم على قاعدة العدل؛ حيث يشترك المسلمون مع غير المسلمين في التنافس داخل هذا المضمار، بل وقد يتفوق غير المسلمين في مجال القيم الحضارية التي تفردس الدنيا كما نرى في عصرنا والتي سماها القرآن الصالحات واعتبر أن أصحابها هم الصالحون الذين يستحقون وراثة الأرض!
لكن قاعدة الثواب الأخروي تقوم على الفضل الإلهي لمن استقاموا على الطريق؛ ذلك أن عظمة الجزاء في الجنة لا تقارن بحجم الأعمال الصالحة في الدنيا، ولذلك ختم تعالى الآية بقوله: {والله يحب المحسنين}، والإحسان هو أعلى درجات العطاء المادي والمعنوي والإتقان العملي، وكل ما يحبه الله من عباده يبدأ به تعالى من خلال تعامله مع عباده!