مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٤١) .. عندما يتولى الله ورسوله تعليم القرآن

جواهر التدبر (٢٤١)

عندما يتولى الله ورسوله تعليم القرآن

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

 

من المعلوم للمؤمنين أن القرآن الكريم مصدر الحياة الطيبة في دار المعاش، وسبب النعيم الأبدي في دار المعاد، ومن ثم فإن تعليم آياته للعباد هو أعظم النعم عليهم، وهذا ما افتتحت به سورة (الرحمن)، قال تعالى: {الرحمن. علّم القرآن. خلق الإنسان. علّمه البيان} [الرحمن: ١ – ٤]. ومن أجل بيان مدى عظمة هذه النعمة، وهي تعليم القرآن وتفهيمه، فإن هناك ما يلفت نظرنا في هذه الكلمات القرآنية المعدودة، وهي:
– الافتتاح باسم الرحمن، وقد اختاره الله من بين ٩٩ اسما تمثل الأسماء الحسنى لله عز وجل، لأن المقام مقام امتنان بنعمة ستجلب خيري الدنيا والآخرة لمن أخذها بحقها، فكان اختيار هذا الاسم وكأنه يقول بأن تعليم الله للقرآن هو من رحمته بالناس.
– نسبة تعليم القرآن الكريم لله مع أنه قائله ومنزله تعالى، لكنه يريد أن يبين لنا عظمة مقام التعليم للقرآن حتى يكون حافزا للرسول والعلماء والدعاة، وربما كان الله عز وجل قد علّم جبريل القرآن حقيقة، فقد كان ينزل في كل رمضان يدارس القرآن مع الرسول صلى الله عليه وسلم مرة خلال الشهر، وفي آخر رمضان من عمر الرسول دارسه جبريل مرتين!
– تقديم مقام تعليم القرآن على مقام خلق الإنسان، فقد أورد الله عبارة (علّم القرآن) قبل عبارة (خلق الإنسان)، مع أن الترتيب الزمني بالعكس فقد تم خلق الإنسان أولا، لكنه تعالى هنا قدم ما هو أعظم، وهذه أعظم لفتة للتنويه بالشرف الذي يمثله تعليم القرآن!
– الحديث عن تعليم الله البيان للإنسان في الآية الرابعة، وهذا تعزيز لما سبق؛ لأن القرآن بشقي الإعجاز والهداية لا يُفهم إلا من صاحب البيان، ومن باب أولى من يقوم بتعليمه!
ولكن لماذا ورد الامتنان بهذه النعمة العظيمة في سورة الرحمن وفي مطلعها بالتحديد؟..يبدو أن السبب في ذلك هو أن هذه السورة تزخر بجملة من آلاء الله التي لا تعد ولا تحصى، ولأن المقام مقام امتنان فقد بدأ بأعظم المنن والآلاء على الإطلاق، وحينما نقرأ هذه السورة نجد بعد كل نعمة منها يأتي السؤال الرحماني في آية منفصلة: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، والخطاب هنا للإنس والجن، وقد تكررت عبارة الامتنان هذه بنفس الحروف في ٣١ موضعا من هذه السورة غير الطويلة!
ويؤيد هذا الاستنباط ما ذكره الإمام الشوكاني في كتابه (فتح القدير) بهذا الشأن، فقد قال: “ولما كانت هذه السورة لتعداد نعمه التي أنعم بها على عباده، قدم النعمة التي هي أجلّها قدرا وأكثرها نفعا وأتمها فائدة، وأعظمها عائدة، وهي نعمة تعليم القرآن، فإنها مدار سعادة الدارين، وقطب رحى الخيرين، وعماد الأمرين”.

وفي مقام آخر امتن الله على المسلمين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وإعداده لتعليمهم القرآن بجانب مهماته الأخرى، فقال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: ١٦٤].
ونلاحظ أنه عز وجل بدأ الآية بحرف تحقيق وصدّره باللام (لقد) من أجل تأكيد ما سيأتي من كلام، وأورد فعل الامتنان بكل وضوح (منّ)، وذكر المؤمنين هنا وليس المسلمين؛ لأنه لن يستفيد من هذه المنة إلا المؤمنون، ذلك أن الإيمان يجمع بين العلم الذي يحتاجه التفكر العقلي ويزيده، وبين الإخلاص الذي يحتاجه التخشع القلبي ويباركه. والتلاوة الواردة في الآية تعني القراءة الخاشعة المتأنية التي تتغلغل في ثنايا العقل والقلب، ثم التزكية التي تعني التربية على تعاليم القرآن بما تتضمنه من تخلية لآثار القبضة الترابية التي تجذب المرء نحو الأرض، وتنمية لأشواق النفخة الروحية التي ترقى بالمرء نحو السماء.
أما تعليمه إياهم الكتاب والحكمة، فتعني تفهيمهم منهج التعاطي مع القرآن لاستخراج أسراره الثاوية في نصوصه المحكمة والمتشابهة، والحكمة تعني تعليمهم التنزيل السوي لتوجيهات القرآن ومعانيه على الحوادث والمشاكل التي تعتمل في الحياة، بطريقة مثالية؛ ذلك أن أجمع تعريف للحكمة هو وضع الشيء في محله وهو أنسب تعريف لما نحن بصدده هنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى