جواهر التدبر (٢٢٥)
أصناف الكائدين
بقلم أ. د .فؤاد البنا
– الكيد المعتبر:
الكيد هو تخطيط خفي يستهدف صاحبه الوصول لتحقيق هدفه من خلال طرق ملتوية، ومن ثم قد يكون مشروعا إذا انسدت الطرق الطبيعية، وقد يكون غير مشروع إذا لم توجد ضرورة أو حاجة لذلك.
ومن صور الكيد المشروع ما فعله الخليل إبراهيم عليه السلام من استغلال غياب قومه يوم عيدهم وقيامه بتدمير أصنامهم ثم وضع الفأس الذي استخدمه على عاتق صنمهم الكبير، وهو ما عبر عنه إبراهيم عليه السلام بقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} [الأنبياء: ٥٧]، ويبدو أنه قال هذا الكلام في نفسه ولم يقله في وجوههم وإلا لفشلت الخطة، وما دفع إبراهيم لهذا الكيد هو اختلال موازين القوة تماما، فقد ظل وحده داخل مجتمع متشدد في كفره، ولذلك وصفه الله بأنه كان أمة، إلى أن انضم إليه ابن أخيه لوط عليه السلام. وكان هدفه من هذا الكيد أن يهز قناعتهم بفاعلية الأصنام وأن يدفع عقولهم للتفكير بتفاهة عبادة الأوثان التي صنعوها بأيديهم، راجيا أن ينتبهوا إلى سخافة أن يقوم المخلوق بصنع خالقه!
وكان قبل هذا قد بذل جهودا عقلية جبارة في الإقناع العقلي الصرف، من خلال المجادلات والمناظرات المتسلحة بالبراهين المنطقية ولكن من دون فائدة!
– الكيد الضرورة:
من المعلوم في الشريعة الإسلامية أن (الضرورات تبيح المحظورات)، وقد تآمر أبناء يعقوب عليه السلام على أخيهم يوسف وحرموه من والديه وشقيقه الوحيد، وعندما أصبح عزيز مصر وجاؤوا من الشام ليكتالوا طعاما طلب منهم القدوم بأخيهم الصغير دون أن يتعرفوا عليه، وحينما جاؤوا به أراد أن يستبقي أخاه معه لكن قوانين دين الملك في مصر لا تسمح بذلك، فألهمه الله أن يعمل من داخل قوانين بني إسرائيل؛ حيث كانت شريعتهم تعاقب السارق بأن تجعله مملوكا للمسروق منه، ومن ثم فقد وضع السقاية في رحل شقيقه، والتفاصيل معروفة في سورة يوسف، وعندما فتش الموظفون أوعيتهم وجدوا السقاية في رحل شقيق يوسف فأخذوه، وقد أشار القرآن إلى هذه المكيدة في قوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك…} [يوسف: ٧٦]، ونسب الله الكيد إلى نفسه لأنه هو الذي ألهم يوسف هذه الحيلة!
وربما اطمأنت نفس يوسف لهذه المكيدة الناعمة؛ لأنه سبق أن تعرض لمكيدة بشعة من إخوته ومن دون سبب أو حاجة، سوى خبث النفوس الدنيئة، وهي مكيدة الرمي في البئر والمجيئ عشاء إلى أبيهم وهم يبكون زاعمين أن الذئب قد أكله، وكان أبوه يعقوب الذي يعرف نفسيات أبنائه قد نصحه بعدم قصّ الرؤيا عليهم فقال له: {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا} [يوسف: ٥]، لكنه أخبرهم بالرؤيا فحدث ما حدث!
– كيد الخبثاء:
لا يتورع الخبثاء عن اللجوء إلى الكيد المنفلت من خطام الأخلاق والقوانين والأعراف، حيث أن (البراجماتية) التي عرفت في العصر الحديث كنظرية في السياسة كانت موجودة من آلاف السنين ولكن من غير تأصيل، البراجماتية التي تجعل الغاية مبررة للوسيلة مهما كانت، فتتسلح بالأكاذيب والحيل ولا تتورع عن تزييف الحقائق وقلب الوقائع رأسا على عقب، وقد امر الله أهل الحق أن يُعدوا كل ما يملكون من وسائل القوة وأن لا يخافوا من كيد أعدائهم، كما في قوله تعالى: {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا} [النساء: ٧٦]، وأخبر تعالى أنه موهن كيد الكافرين [الانفال: ١٨]، وقال عز من قائل: {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} [غافر: ٢٥]، ونلاحظ أنه تعالى استخدم أسلوب الحصر والقصر كأنه يقول بأن كيد الكفار حتما في ضلال، ما دام المسلمون يقومون بما عليهم من استكمال الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية بما في ذلك دوام الاتصال بالله وملازمة التوكل عليه، كما قال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} [آل عمران: ١٢٠].