مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٠٢) .. أفياءُ التآلف

جواهر التدبر (٢٠٢)

أفياءُ التآلف

 

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

 

– دور التوحيد في صناعة الوحدة:
من يتأمل نصوص القرآن الكريم يدرك أن الوحدة من أهم ثمار الوحدانية لله تعالى؛ ذلك أن توحيد الله يجعل المرء في معية الله، ومعية الله تورث المؤمنين التوحد؛ حيث تزرع في قلوبهم التآلف، كما قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت مافي الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال: ٦٢، ٦٣].
هذا بجانب أن توحيد الله يوفر نسقا متكاملا للنظر إلى الكون والحياة والإنسان، وتنتصب أمهات هذا النسق كقواسم مشتركة، فتصبح قاعدة واحدة للانطلاق وسقفا واحدا للتعدد تحت ظلاله الوارفة!

– التوحد قرين الوحدانية:
يجمع القرآن الكريم في مواضع عديدة بين الوحدة والوحدانية، وهي صورة من صور اقتران حقوق الله وحقوق الإنسان، ووصل الأمر إلى حد أن الله تعالى حينما وصف المجتمع المؤمن قدم التوحد على الوحدانية، وذلك حينما ذكر ولاء المؤمنين لبعضهم قبل طاعة الله ورسوله، في قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} [التوبة: ٧١]. ومن الواضح أن المولى عز وجل قد وضع الصلاة والزكاة بين الوحدة والوحدانية وكأنه يقول بأن حقوق الله التي تقوم على قاعدة الصلاة وحقوق الناس التي تقوم على قاعدة الزكاة، لا يمكن أن تتحقق بصورة تامة في الواقع من دون تحقق وحدة المجتمع ووحدانية الله، وإذا توفرت في مجتمع ما رباعية: الوحدة، والوحدانية، وحقوق الله، وحقوق الإنسان؛ فإن هذا المجتمع يصبح أهلا لتنزل رحمة الله عليه، وهذا ما ختمت به هذه الآية العظيمة: {أولئك سيرحمهم الله}.

– المنافقون أعداء الوحدة والوحدانية:
لما كان المنافقون أداة من أدوات تمزيق الوحدة داخل المجتمع الإنساني الذي ينتمون إليه وتشويه الوحدانية الربانية التي يزعمون الإيمان بها، فقد شن عليهم القرآن حرباً شعواء، وخاصة بعد الآية التي أوردناها في الفقرة السابقة، وهي في سورة التوبةالتي أطلق عليها المفسرون أسم (الفاضحة) للمنافقين!
قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} [التوبة: ١٠١].
ومردة المنافقين هم المتفوقون منهم والذين بلغوا شأواً بعيداً في تجسيد آفة النفاق، ولذلك فإن الله يعذبهم مرتين، الأولى لما مزقوا من عرى الوحدة بإرجافهم وتآمرهم مع الأعداء وتمزيقهم لصفوف المسلمين، والأخرى لما شوهوا من قيم الوحدانية، بشكوكهم حول وجود الله وتقديمهم نماذج قبيحة عن المسلمين أمام الأمم الأخرى، والله أعلم.

– ارتباط الذل بالعزة:
ما فتئ القرآن الكريم يربط قيمة الذل بقيمة العز، كما في قوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: ٥٤]. وكأنه يقول بأن داخل كل إنسان مشاعر ذل ومشاعر عز.
وعندما تنصرف طاقة الذلة إلى أوساط المؤمنين،  فستذهب طاقة العزة نحو الكافرين، والعكس صحيح، ونلاحظ أنه حتى في العلاقة مع الكافرين فإنه لا يجوز الكبر والغرور والعنجهية عليهم، إلا وقت الحرب نفسها وضد المحاربين، كنوع من أنواع الحرب النفسية، مثلما قال صلى الله عليه وسلم عن مشية أبي دجانة في غزوة أحد: “هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع”!

– العزة قيمة وسطية:
من المعلوم أن العزة قيمة وسطية وأنها فضيلة بين رذيلتي الكبر والمهانة، وسنعود في هذا الإطار إلى الآية السابقة وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [المائدة: ٥٤] وبإمعان التأمل في الآية نجد أن فيها إشارة إلى أن المجتمع الذي يتخلى عن هذه القيم المتلازمة سيخسر مكانته لصالح غيره من الأقوام والمجتمعات ممن تتوافر فيهم هذه القيم، ولذلك ختم الله الآية بفاصلة تحتوي على اسمين من أسمائه تعالى: “واسع عليم”، وكأنه يشير إلى أنه تعالى واسع النظر لجميع الناس بمختلف أعراقهم وألوانهم وعليم بمن يمتلك المؤهلات لعمارة الأرض ووراثة التمكين، وهو نوع من الوعيد الخفي للمسلمين بأن الله قد يسحب منهم التمكين ويعطيه لمن يستحقونه، وهذا عين ما حدث في الواقع خلال العصور الأخيرة، حينما حادوا عن القيم الحضارية في الإسلام مكتفين بأداء الشعائر التعبدية من دون روح، في أبأس صورة من صور العلمانية التي يرفضها الإسلام وتلفظها تعاليمه الداعية لجعل الأرض كلها محرابا لعبادته عز وجل، وفق تعاليم القرآن الذي جعله الله هاديا لكل ما هو أقوم في كافة جوانب الحياة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى