مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر(٢٩٩) .. مقومات الوعي الجمعي(٩)

جواهر التدبر(٢٩٩)

مقومات الوعي الجمعي(٩)

 

بقلم أ.د.فؤاد البنا

– تطهير القلوب من أسباب التفرق والتنازع:
أثبتت أحداث الزمان أن شياطين التحريش مهما أوقدت من جَذَوات الشقاق ونيران الخلاف بين المسلمين، فإنها تظل بدون استعار أو تأثير، ما لم تتوافر قابلية الاشتعال عند المستهدفين، وتتمثل هذه القابلية في إصابة القلوب بالمرض أو بالقسوة، وحينئذ فقط تستطيع وساوس الشيطان أن تشعل نيران الفتنة وأن تلتهم مشاعر الود والحب وأن تصنع مساحات متصحرة وفجوات مهلكة بين الإخوة.
وتأملوا معي قوله تعالى: { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: ٥٣]، لتروا مصداق ما ذكرته آنفا، وتؤكد الجملة الأخيرة من الآية أن الظلم يتسبب في شقاق بعيد الغور كتشققات الأرض، ثم إن الظالمين يَسْبحون في لَُجَجِ الشقاق والتمزق!
ومن أسوأ علل العقول والقلوب احتكار الحقيقة المطلقة، فهي تجعل المرء يخدع نفسه أولاً ثم يتحول إلى معول لهدم صرح مجتمعه وأمته ثانيا، وبلا شك فإن أخطر أصناف الخديعة هي خداع الذات؛ لأنها تمنح الإنسان وثوقية عالية في أنه على الحق المبين، وتجعل الإفاقة منها بعيدة المنال، وقد وصف الله أصحاب هذه الخديعة بأنهم ‏{يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}، ونبّأنا الله على سبيل التحذير بحال الأخسرين أعمالاً، فوصفهم بأنهم: {الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.
ولكي لا نخدع أنفسنا ينبغي أن نتسلح بأبصار العلم وبصائر الإخلاص، ولنلاحظ كيف تكررت كلمة (يحسبون) هنا، وهي تعبير مخيف عن حالة الانخداع التي يعانون منها؛ نتيجة اعتقادهم بامتلاك الحقيقة المطلقة وجزمهم  اليقيني بأنهم على الحق الذي لا يتطرق إليه شك!
وهناك آفات وعلل قلبية عديدة تتسبب في تمزيق الأواصر والتفريق بين الأحبة، ومنها العجب والغرور والكبر والحسد وغيرها.
ولقد منّ الله على العرب، بحكم أنهم أمّة الشُّهود على الأمم، بأن أرسل لهم نبيا من أنفسهم حوّلهم من أعداد متنافرة إلى جماعات متضافرة، ومن كيانات عصبوية متباينة إلى تجمعات واسعة ومتعاونة، فقال تعالى: {لقد مَنَّ اللهُ على المؤمنين إذْ بَعثَ فيهم رسولاً من أنفسِهم يتلو عليهم آياتِه ويُزكّيهم ويُعلِّمُهم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مُبين} [آل عمران: ١٦٤]، فقد كانوا يعيشون في  غياهب الضلال، ومن أهم أعراضه انعدام الوَعي الجَمْعي وطغيان الحِسّ العصبوي الذي ينحو بهم منحى التمزق والاقتتال لأتفه الأسباب، مما جعلهم لُقمةً سائغة للأمم التي تحيط بهم، ولاسيما الفرس والرومان!

– ترميم صفوف المسلمين بإسمنت الولاء والبراء:
من المعلوم أن قضية الولاء والبراء متصلة بتوحيد الله عز وجل، ومن مجاني التوحيد أنه يمنح الإنسان شعورا عميقا بمَعيّة الله التي تورث المؤمنين التآلف والاتحاد، كما قال تعالى: {هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين. وألَّف بين قلوبهم لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألفتَ بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم إنه عزيزٌ حكيم} [الأنفال: ٦٢، ٦٣]، فإن هذا التأليف هو ثمرة توحيد الله وعبادته في سائر مجالات الحياة.
ومن صفات المجتمع المؤمن أنه يستظل تحت راية الاتحاد والوحدانية، وبهذا فقط يستحق تنزل رحمة الله عليه، كما قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} [التوبة: ٧١]. ونلاحظ أن الآية قدّمت  الاتحاد المُشار إليه بالتوالي، على الوحدانية المشار إليها بطاعة الله ورسوله، وبذلك فإنها تلفت النظر إلى الأهمية البالغة للوحدة في صناعة القوة وتحقيق الحرية والكرامة.
ولما كان المنافقون أداة من أدوات تمزيق الوحدة وتشويه الوحدانية؛ فقد شنّ عليهم القرآن حرباً شعواء، وخاصةً بعد هذه الآية من سورة التوبة والتي أطلق عليها المفسرون اسم (الفاضحة) للمنافقين، ومن ذلك قوله تعالى: {وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يُردَّون إلى عذاب عظيم} [التوبة: ١٠١]. ومردة المنافقين هم الذين بلغوا شأواً بعيداً في النفاق، ولذلك فإن الله يُصْليهم عذابين، الأول مقابل ما مزّقوا من الوحدة والآخر جزاء ما شوَّهوا من الوحدانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى