مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر(٢٠٥) .. جريمة تبعيض القرآن

جواهر التدبر(٢٠٥)

جريمة تبعيض القرآن

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

من المسائل المعلومة بالضرورة أن القرآن كتاب هداية متكامل ودستور حياة شامل لكل الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والترفيهية في دنيا المسلم، فقد نزل الله الكتاب تبيانا لكل شيء، وأخبر بأنه لم يفرط فيه من شيء، ودعا للإيمان به جملة وتفصيلا من حيث المبدأ، وبالنسبة للتطبيق العملي فإنه يخضع للقدرة والاستطاعة، بمعنى أن التصورات مطلقة والتصرفات المبنية عليها نسبية بحسب الظروف والاستطاعات.
وفي المقابل فقد شنّع الله عز وجل على من جعلوا القرآن عضين، ممن تشيعوا لبعض تعاليمه وعارضوا البعض الآخر، فقال تعالى: {كما أنزلنا على المقتسمين. الذين جعلوا القرآن عضين}، ونهى عن تبعيض القرآن نهياً قاطعا، في سياق الحديث عن إيمان بني إسرائيل ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر، حينما وجه لهم سؤالا استنكاريا يقول: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، وهذا أبلغ من النهي!
والكتاب هو اسم من أسماء القرآن، ومن يتمعن في سر تسمية القرآن بالكتاب، مع أن المصطلح يطلق على أي كتاب، سيجد أن من أسراره التنويه بوحدته البنيوية والموضوعية، فهو متشابه في فصاحته وبلاغته، ومتكامل في تعاليمه وهداياته، حيث لا تناقض ولا تعارض.
ومن معاني الكتاب أنه وحدة واحدة لا تقبل التجزيء والتبعيض، ويرفض الاستبعاد لأي من تعاليمه مثلما لا يقبل أي كتاب نزع صفحة من صفحاته، وإذا حدث ذلك فإنه لا يبقى سليما.
وفي هذا السياق عاب الله على بني إسرائيل عدم تقديرهم لله حق قدره وقيامهم بالتعامل مع التوراة والإنجيل كقراطيس منفصلة عن بعضها، ثم يقومون بإظهار ما يتناسب مع أهوائهم ويحقق رغائبهم ويخفون ما يتعارض معهما، فقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعُلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: ٩١]، وهكذا فإن من يمارس تجزيء القرآن مهما كانت دوافعه إنما يخوض بكله في اللعب، واللعب لا يربي فردا ولا يقيم مجتمعا، فضلا عن أن يقيم حضارة ويوجِد أمة!
ومن الثمار المرة لجريمة تبعيض القرآن وجعله قراطيس منفصلة، أن وجدنا زعماء لا يعرفون من الإسلام إلا الزكاة وطاعة ما يسمونه بولي الأمر، متجاهلين الحكم بما أنزل الله وإقامة موازين العدل واحترام حريات المواطنين وخدمة حقوقهم، ووجدنا علماء يركزون على طاعة الرسول من زاوية أنهم ورثة الرسول في الطاعة وأن لحومهم مسمومة، متجاهلين أدوار العلماء في التربية والتعليم ومحاربة المنكرات وتجفيف منابع الآثام والتصدي للفاسدين، والصدع بكلمة الحق في وجوه الظالمين والمستبدين، ووجدنا تيارات وفرقا تشيعت لنصوص من القرآن تؤيد ما تعتنقه من أفكار جزئية أو منحرفة؛ بتأويل باطل أو متعسف لبعض النصوص وتجاهل تام لبقية النصوص، وفي ذات السياق وجدنا آباء لا يعرفون من القرآن إلا آيات طاعة الوالدين، وأزواجا لا يعرفون إلا حقوقهم وهلم جرا، ويذكرني هذا بما روي عن أشعب الذي اشتهر بطمعه ونهمه الشديد على الطعام، فقد قرب له أحد الكبراء وجبة دسمة، وعندما هم أن يمد يده طلب منه المضيف أن يُسمعه شيئا من القرآن الذي علم أنه يحفظه عن ظهر قلب، فقال له: كنت أحفظه ونسيته ولم أعد أتذكر إلا قوله تعالى: {آتنا غداءنا لقد لقينا في سفرنا هذا نصبا}!
ونستنتج مما سبق أن الجميع معنيون بحقوقهم دون واجباتهم، وبالجزء الظاهر من الحقيقة دون الوجه الخفي من أمام أعينهم، مع تضخم للذوات وتزكية للنفوس، وصولا إلى احتكار تام للحقيقة المطلقة وتسفيه الآخر وتفسيقه وربما تكفيره، مما زاد من حالة التمزق في أمتنا ووسع ظاهرة الغثائية بين أبنائها!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى