جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام (1)
بقلم د. مقداد يالجن
إنَّ أهمية التربية العقلية ترجع إلى تقدم المتعلمين في التعليم أولاً ثمَّ إلى تقدُّم الأمَّة في الميادين العلميَّة المختلفة، ذلك أنَّ التقدم العلمي مُتوقف على تقدم المتعلمين في التعليم وتقدم المتعلمين في التعليم مُتوقف على التربية العقليَّة، ومن ناحية أخرى فإنَّ الثروة العقليَّة لدى الأمَّة تُعتبر في نظر المربين أكبر ثروة ورأس مال للأمَّة وباعتبار أنَّ التربية العقلية تؤدي إلى نمو العقول وزيادة القُدرات العقليَّة أو الإدراكيَّة فإنَّ التربية العقلية تؤدي من هذه الناحية إلى أكبر ثروة، وأكبر رأس مال في حياة الأمَّة.
وقبل الدخول في ماهية التربية العقلية في الإسلام يجدر بنا أن نعرِّف ماهية العقل؛ لأنَّنا إن لم نعرفه فلا نستطيع تربيته، فمعرفة الشيء تسبق استخدامه والاستفادة منه.
وإذا نظرنا إلى وجهات نظر الدارسين لماهية العقل وجدناهم يختلفون فيه اختلافاً كبيراً فقديما قسَّم أرسطو العقلَ إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العقل الهيولاني أو العقل بالقوة، وهو الجزء المستعدُّ من النفس لقَبول مَعَاني الأشياء.
الثاني: العقل بالفعل أو العقل المستفاد، وهو ما يحصل للعالم حين يستطيع أن يَنتقل إلى الفعل بنفسه أي: عند مباشرة العقل للمدركات.
الثالث: العقل الفعَّال وهو المرتبة التي يصل إليها العقل عندما يدرك تلك المعاني وينتزعها فعلاً عن المدركات الخارجيَّة الحسيَّة. [كتاب النفس لأرسطو ص 108 ت. الدكتور احمد فؤاد الأهواني. عيسى البابي الحلبي. القاهرة 1949م.]
وقسَّمه الفارابي وابن سينا تقسيماً مُشابهاً لتقسيم أرسطو وتعريفه [في النفس والعقل لفلاسفة الاغريق والإسلام. ص 203- 211. دكتور محمود قاسم. مكتبة الانجلو المصرية. القاهرة. الطبعة الثالثة.]. وقسَّمه الغزالي إلى قسمين أحدهما: يُراد به العلم بالحقائق. وثانيهما: تلك اللطيفة المدركة من القلب [إحياء علوم الدين ¾ مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني. القاهرة.].
أما رأي المحدثين من علماء النفس في العقل وقدراته فيغلب على تعبيراتهم عن العقل التعبير بالذكاء أو القدرات العقلية وهم يختلفون اختلافاً كبيراً في ماهيته وقدراته.
فقد عرَّفه (سبيرمان) مثلاً بأنَّه “القدرة على إدراك العلاقات البسيطة كانت أم صعبة خفية” [سيكولوجية الفروق الفردية ص 102. الدكتور يوسف الشيخ – دار النهضة العربية. القاهرة 1964م.].
وعرَّفه (ركس نايت) بأنَّه القدرة على اكتشاف الصفات الملائمة للأشياء أو الأفكار وعلاقتها بعضها ببعض. وعرَّفه (ثورندايك) بأنَّه القدرة على مجرد تكوين ترابطات. واقترح ثلاثة مستويات للذكاء المجرد، والذكاء الاجتماعي والذكاء الميكانيكي.
ويتضمن النوع الأول استعمال جميع الرموز اللغوية كالأرقام وغيرها. والذكاء الاجتماعي هو القدرة على تفهم الناس ومسايرتهم. والفرق بينهما أنَّ الأول موروث بينما يرجع الثاني إلى الاكتساب.
أما الذكاء الميكانيكي فهو السمة التي تنمو خلال ما يمنح للفرد من فرص تعليمية نتيجة لميوله وذلك على أساس من الذكاء الفطري أو الطبيعي.
وعرَّفه فريمان بأنَّه القدرة على التعلم. والثالث: أنه التفكير المجرد. والرابع: أنه القدرة الكلية لدى الفرد على التصرف الهادف والتفكير المنطقي والتعامل المجدي مع البيئة [سيكولوجية الفروق الفردية ص 103 وما بعدها. الدكتور يوسف الشيخ.].
ويرى (إدوارد كلاباريد) أنَّ الذكاء هو القدرة على المعرفة والقدرة على التكيف مع الواقع [التربية الوظيفية. ص134. ادوارد كلابارد. ترجمة الدكتور محمود قاسم – مكتبة الانجلو المصرية. الطبعة الثانية – القاهرة.].
وأوسع تعريف لمفهوم الذكاء تم على يدي (ثيرستون) على أنَّه قدرة القدرات وموهبة المواهب والمحصلة العامة لجميع القدرات المعرفيَّة الأوليَّة [الذكاء ص 248 دكتور فؤاد البهي السيد – دار الفكر العربي القاهرة 1969.].
ويمكن إجمال رأي المحدثين دون الدخول في كثرة من التفصيلات التي توجد في كتب علم النفس بأنَّ الذكاء أو القدرة العقليَّة لها صفات منها الإدراك بوجه عام، واستيعاب المعلومات وحفظها، والعمل بمقتضى هذا الإدراك وبمقتضى تلك المعلومات. وهذه الناحيةُ الأخيرة أَمْيَلُ إلى الحكمة؛ لأنَّ الحكمة هي العمل بالعلم كما تقتضي الأحوال والمواقف.
أما رأي الإسلام في العقل فقد جاءت نصوص مُتعددة تعبِّر عن أنَّ العقل قوة مدركة في الإنسان خلقها الله تعالى فيه ليكون مسؤولاً عن أعماله على أساس قدرته للإدراك والتمييز بين الحق والباطل والخير والشر والحُسن والقبح، ثم تكليفه بناء على ذلك أن يتبع طريق الحق والخير والحسن، وأن يتجنَّب طريق الباطل والشر والقبح والضلال والانحراف.
وعلى الإنسان بناءً على هذا وذاك أن يستخدم هذه القدرة ويعمل بها كما أرشده خالقه، وإلا كانت عاقبته الخسران والهلاك في الدنيا والآخرة، ولهذا بيَّن الله تعالى أنَّ سبب الانحراف والضلال هو عدم العمل بمقتضى هدى العقل السليم فقال: [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] {الملك:10}
وقال تعالى: [يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ] {البقرة:75}.
وقال أيضاً: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {البقرة:44}.
وقال أيضاً: [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ] {العنكبوت:43}.
وقال سبحانه: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا] {الحج:46}
وقال سبحانه: [إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ] {الأنفال:22}.
وأهم ما يمكن أن نستخلصه من هذه النصوص وغيرها فيما يتعلق بالعقل هو أنَّ العقل قوة مدركة فطريَّة في الإنسان، وأنه يُستعمل لثلاثة مَعَانٍ؛
الأول: الإدراك.
الثاني: العمل بمقتضى الإدراك وهو العقل العلمي أو الحكمة.
والثالث: العقل القلبي.
والفرق بين الإدراك العقلي والقلبي هو أنَّ الإنسان يحسُّ بالفرق بين الإدراكين من حيث أن ما يدركه الإنسان بقلبه غير ما يُدركه بعقله، وما يدركه بعقله قد لا يدركه بقلبه، إذ أنَّ هناك خصوصية لإدراك كل من العقل والقلب؛ فإن الإدراك العقلي منطقي تسلسلي واستدلالي، بينما إدراك القلب إلهامي واضح كالعيان؛ ولهذا عبَّر الله تعالى عن إدراك القلب بالرؤية فقال تعالى: [مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى] {النَّجم:11}.
ولهذا أيضاً قال تعالى في الآية السابقة: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا] {الحج:46}.
وجاء في آية أخرى قوله تعالى: [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] {الأعراف:179}.
وينبغي أن نفرِّق هنا بين القلب المادي الجسمي المعروف وبين القلب المعنوي الذي هو جوهر الإنسان وحقيقته، كما أن قلب الشيء جوهره وحقيقته أو وسطه إلهام.
إذن رؤية القلب غير إدراك العقل، ودليل وجود هذا الفرق تجريبي أكثر من أن يكون منطقياً. فالإنسان أحيانا قد يَشعر بحقيقة في نفسه ولا يجد لها دليلاً منطقياً. وبالعكس قد يجد دليلاً منطقياً على فكرة ولا يطمئنُّ إليه قلبه أو يقتنع به قلبياً.
وغريب أننا نجد من رجال الفكر ممن يؤيد هذه الفكرة ويقتنع بهذا التفريق بين الإدراك القلبي والإدراك العقلي من هؤلاء مثلاً الفيلسوف (بسكال) حيث إنَّه فرَّق بين القلب والعقل كوسيلتين للمعرفة قال: (فما نعرفه بالقلب لا ندركه بالعقل وما نبرهن عليه لا نراه ولا نلمسه) [” بسكال” ص 135. بقلم الدكتور نجيب بدوي. دار المعارف 2 ط. القاهرة.].
ثم إنَّ هذا التفريق أمر هامٌّ في التعليم في ميدان التفريق بين ما يتعلم بالعقل وما يعلم بالقلب.
وأخيراً: فإنَّ ذلك التمييز بين العقل والقلب أمر هام كذلك في ميدان التربية من حيث إن التربية تنمية القدرات والاستعدادات الطبيعية، ومنها القدرات العقليَّة أو الإدراكيَّة ولكل هذه القدرات وسائلها التربوية الخاصة بها. كما أن لكل منهما أَعْراضاً مَرَضيَّة؛ فالعقل يفقدُ قدرتَه الإدراكيَّة، وكذلك القلب؛ ولهذا قال الله تعالى: [فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}.
ثم إنَّه من الأمور الضرورية في ميدان التربية العقليَّة أو الإدراكيَّة النظر إليها على أنَّها من الدوافع الطبيعيَّة أو الفطرية في الإنسان مثل دافع الأمومة أو الوالديَّة، أو ما يُعبِّر عنها بالحاجات الأساسيَّة مثل الحاجة إلى الغذاء، والحاجة إلى التناسل أو التناكح، والحاجة إلى الانتماء والعطف. [الأخلاق والسلوك في الحياة ص 24. وليم مكدوجل. ترجمة جبران سليم إبراهيم. مكتبة مصر 1962م)]
فالحاجة إلى المعرفة والاستطلاع تَرجع إلى هذه القدرة الإدراكيَّة.
واعتبر بعض علماء النفس: الحاجة إلى المعرفة والاستطلاع من الحاجات الأساسيَّة الطبيعيَّة للإنسان وعدم تحقيق هذه الحاجة يؤدي إلى النقص في النمو العقلي أو الإدراكي، ثم إن إقناع المتربين بذلك له دور كبير في اندفاعهم نحو المعرفة والاستطلاع. [الإنسان معجزة الخلق ص 93. دكتور جاد فرج جودة، مكتبة الانجلو المصرية. القاهرة 1972]
المصدر: مجلة المسلم المعاصر -رجب، شعبان ورمضان 1402 – العدد 31 /.
وللمقالة تتمَّة تتحدثُ عن (أهمِّ جوانب التربية العقلية الإسلامية)، تأتيكم في الجزء الثاني.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)