مقالاتمقالات مختارة

جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس-2-

جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس-2-

بقلم أيمن يزبك

المبحث الثاني

منهجه في العقائد

لقد تميز منهج الإمام في عرض العقيدة الإسلامية بالبساطة والصفاء الذي كانت عليه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصدر الأول من السلف قبل أن تدخلها الجدليات التي لحقت بهذا العَلَم فيما بعد… وكان الإمام محبًّا لمنهج السلف وكان على منهج أهل الحديث في العقائد وخصوصًا منهم الإمام أحمد بن حنبل، ويتجلى ذلك في قوله: (قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله وأماتنا على مذهبه أصلًا وفرعًا وحشرنا في زمرته) (1) ، وكان يتحدث أيضًا عن السلف فيقول: (عليكم بالاتباع من غير ابتداع عليكم بمذهب السلف الصالح امشوا في الجادة المستقيمة) (2).

1- التوحيد: 

كان الإمام الجيلاني يرى أن توحيد الله يأتي بالفطرة، وهو ينبع من أعماق النفس البشرية، وفي هذا يقول: (النفس بأجمعها تابعة لربها موافقة له إذ هو خالقها ومنشئها وهي مفتقرة له بالعبودية)، ثم يبين الجيلاني رأيه في أن معرفة الإنسان لربه في المرحلة الثانية بعد الفطرة تكون من خلال تأمله في آيات الله في الكون والنفس، حيث يقول الجيلاني: (أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد فرد صمد… لا شبيه له ولا نظير، ولا عون ولا ظهير، ولا شريك ولا وزير، ولا نَّد ولا مشير) (3) ، وهذا كما في قوله تعالى: {ليس كمثلهِ شيء وهو السميع البصير} [سورة الشورى: الآية 11}، وهذا تمام التوحيد.

ويُتابع الشيخ الجيلاني قوله: (إن الواجب على من أراد الدخول في دين الإسلام أن يتلفظ بكلمة التوحيد، وأن يتبرّأ من كل دين غير الإسلام معتقدًا بقلبه وحدانية الله…) (4).

2- قوله في الإيمان: 

وأما عن قوله في الإيمان فكان لا يخرج عن قول جمهور السلف الصالح في ذلك حيث يقول: (ونعتقد أن الإيمان قول باللسان ومعرفة بالجنان وعمل بالأركان، وهذا هو القول المعتمد عند السلف الصالح)، وفي موضع آخر يقول الجيلاني: (الإيمان قول وعمل: فالقول دعوى والعمل هو البيّنة، والقول صورة والعمل روحُها)، ويقول أيضًا: (ونعتقد أن الإيمان قول باللسان ومعرفة بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (5) ، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {فأما الذين امنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون} [سورة التوبة: آية 124] وقوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون} [سورة الأنفال: آية 2].

3- موقفه من علم الكلام: 

لم يكن الإمام عبد القادر من محبّي علم الكلام ولا من الخائضين فيه بل كان يعارضه بشدّة، وكان يتمثّل بقول الإمام أحمد بن حنبل وهو: (لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيْء من هذا إلّا ما كان في كتاب الله عز وجل أو حديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم أو عن التابعين، فأمّا غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود) (6).

4- التفويض في المتشابه: 

وقد التزم الجيلاني منهج التفويض بما جاء في الكتاب والسنة بخصوص صفات الله حيث يقول: (ولا نخرج عن الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونَكِل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل)(7)، ويقول أيضا: (انفوا ثم أثبتوا، انفوا عنه مالا يليق به، وأثبتوا له ما يليق به، وهو ما رضيه لنفسه ورضيه له رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا فعلتم هذا زال التشبيه والتعطيل من قلوبكم) (8).

5- شروط قبول العمل: 

لقد وافق الجيلاني علماء السلف فيما ذهبوا إليه حول شرط قبول العمل وهو الإخلاص لله أولًا ثم الاتباع أي موافقة العمل للسنة وفي هذا يقول: (إذا عملت هذه الأعمال – يعني الإتيان بالأوامر وترك النواهي – لا يقبل منك إلا الإخلاص فلا يقبل قول بلا عمل، ولا عمل بلا إخلاص وإصابة السنة) ويقول في موضع آخر: (وجميع ما ذكرناه من صيام الأشهر والأضحية والعبادات من الصلاة والأذكار وغير ذلك لا يقبل إلا بعد التوبة وطهارة القلب وإخلاص العمل لله تعالى وترك الرياء والسمعة) ثم يستشهد على وجوب الإخلاص بقول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [سورة البينة: آية 5] وقوله سبحانه (ألا لله الدين الخالص) [سورة الزمر: آية 3] ثم ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه الغنية أقوال العلماء في الإخلاص مبيّنًا منهجه الذي لا ينفصل عن منهج السلف الصالح، ومن ذلك قول سعيد بن جبير [ت96هـ} (الإخلاص أن يخلص العبد دينه لله وعمله لله تعالى، ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحدًا) (9).

6- مرتكب الكبيرة: 

ومن أبرز ما خالف به الجيلاني فرق الخوارج والمعتزلة حكم مرتكب الكبيرة، فأهل السنة والجماعة يرونه فاسقًا لا تخرجه الكبيرة من ملة الإسلام، وإنما هو واقع تحت رحمة الله في الآخرة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ويقول الشيخ الجيلاني في هذا: (ونعتقد أن من أدخله الله النار بكبيرته مع الإيمان فإنه لا يخلد فيها بل يخرجه منها؛ لأن النار في حقه كالسجن في الدنيا يستوفى منه بقدر كبيرته وجريمته ثم يخرج برحمة الله تعالى ولا يخلد فيها) ثم يتابع قائلاً: (ونعتقد أن المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرةً من الكبائر والصغائر لا يكفُر بها، وإن خرج من الدنيا بغير توبة، إذا مات على التوحيد والإخلاص) (10).

هذه باقة من عقائد الإمام الجيلاني نلحظ من خلالها الالتزام الكامل بعقيدة أهل السنة والجماعة ومفاهيمهم على طريقة السلف مع البعد عن كل ما قد لحق ببعض العلوم الإسلامية من جَدَليّات لا طائل منها… وهذا هو المنهج التي قامت عليه مدرسة الشيخ عبد القادر وحملها تلاميذه إلى أرجاء العالم الإسلامي فكانوا خير قادة لحركة الإصلاح والنهوض السني.

الحلقة الأولى هنا

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

======

(1) – عبد القادر الجيلاني: الغنية، ج1، ص55.

(2) – الفتح الرباني، ص35.

(3) – الغنية، ج1، ص54.

(4) – الغنية، ج1، ص2.

(5) – المصدر نفسه، ج1، ص62.

(6) – الغنية، ج1، ص57.

(7) – الغنية، ج1، ص62.

(8) – الفتح الرباني مجلس 47، ص62.

(9) – الجيلاني: الغنية، ج2، ص66.

(10) – الجيلاني: المصدر السابق، ج1، ص65.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى