مقالاتمقالات المنتدى

جمعية علماء الجزائر.. جهاد ملهِم لشعوب الأمة الإسلامية على مَرّ السنين

جمعية علماء الجزائر.. جهاد ملهِم لشعوب الأمة الإسلامية على مَرّ السنين

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

بدأ الشيخ ابن باديس في حركته التجديدية -في الجزائر زمن الاحتلال الفرنسي للجزائر- الساعية نحو التحرير والاستقلال، وقد استطاع ابن باديس تحويل جهوده الفردية إلى عمل منظم على مستوى القطر الجزائري، جمع فيه علماء البلاد في جمعية علماء المسلمين، والتي ساهمت مساهمة عظيمة في توعية الشعب ورفع الجهل عنه، ودعم الثورة ضد الاحتلال بكل ما تملك من أدوات وأفكار ووسائل، إن أول مسمار دقَّ في نعش الاستعمار وأول لبنة وضعت في جدار الاستقلال بعد عهود المقاومة الشعبية المسلحة كانت بانتصاب الشيخ ابن باديس لتدريس القرآن والسنة وعلومهما بقسنطينة منذ سنة 1913م، وصدق رسول الله (ص) القائل: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه. وذلك مصداقاً لقولته المشهورة: أنا أحارب الاستعمار لأني أعلّم وأهذّب فمتى انتشر التعليم والتهذيب في أرض أجدبت على الاستعمار وشعر في النهاية بسوء المصير.

ويقول ابن باديس: إن الحياة تنبعث من المدارس فيجب أن تكون المدارس أول ما نهتم به ونسعى لتحقيقه، وكل من يعارض في تأسيسها فقد عارض في حياة الأمة ونهضتها.

نعم إن ابن باديس ليس فقط محارباً للاستعمار بل إن الاستعمار ليرى فيه وفي حركته أعظم خطر على سيادة فرنسا على الجزائر، لقد نشرت جريدة البصائر مقالاً عن تقييم الفكر الفرنسي الاستعماري لابن باديس وحركته ـ جمعية العلماء ـ فيما كتبته الجريدة الفرنسية « صدى باريس » بترجمة مجلة الصباح التونسية بعنوان.

إن أي جماعة لا تملك أصولاً نظرية ترجع إليها محكوم عليها بالفشل، إذ سرعان ما يتسلل الشقاق إلى أفراد الجماعة الواحدة، بسبب التأويلات المتباينة، ودرءاً لعاقبة انفراط عقد الجماعة، وسداً لذرائع الاختلاف؛ وضع الإمام ابن باديس هذه الأصول الفكرية لتستبين الطريق وتتضح معالمه. (معالم الفكر السياسي لجمعية العلماء ، يوسف بو غابة ص 41)

وتُعتبر هذه الأصول النموذج الأمثل لروعة العلماء في إحاطتهم بالإسلام فهما وتدبراً، ومن يتمعن في هذه الأصول يدرك أنها خلاصة للفكر الإسلامي عقيدة وشريعة وأخلاقاً، والتصور الصحيح مقدمة ضرورية

للتوجه الصحيح، والعمل المستقيم، ولهذا كان العلم عندنا ـ نحن المسلمين ـ يسبق العمل بل العلم عندنا دليل الإيمان وطريق الاعتقاد السليم.

ولو فتح الناس جميعاً بصائرهم على حقائق الإسلام وتعاليمه لعلموا أن شريعة الله رحمة كلها وحكمة كلها وعدل كلها.

وقد شملت هذه الأصول الفكرية مقاصد الشريعة وأصولها، وقد شملت محاور كبرى قام يوسف بوغابة في كتابه معالم الفكر السياسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائرية دراسة تحليلية ؛ بترتيب وتنظيم وتصنيف ما كتبه الشيخ عبد الحميد بن باديس ووضعها في محاور:

المحور الأول: العقائد وتحتها أصولاً:

الأصل الأول التوحيد أساس الدين، فكل شرك في الاعتقاد أو في الفعل فهو باطل مردود على صاحبه.

الأصل الثاني اعتقاد تصرف واحد من الخلق مع الله في شيء ما بشرك وضلال ومنه اعتقاد الغوث والديوان.

الأصل الثالث بناء القباب على القبور وإيقاد السرج عليها والذبح عندها لأجلها والاستغاثة بأهلها ضلال من أعمال الجاهلية، ومضاهاة لأعمال المشركين فمن فعله جهلاً يُعلم، ومن أقرّه ممن ينتسب إلى العلم فهو ضال مضل.

ونلاحظ في هذه الأصول الثلاثة حرص جمعية العلماء على صفاء العقيدة، كما جاء بها رسول الله (ص) وتلقاها السلف ببيضاء نقية، وهذا يترجم ما كان سائداً في المجتمع الجزائري من انتشار بناء القباب على القبور، والمغالاة في شيوخ الزوايا والنظر إليهم بعين القداسة المفضية إلى الاعتقاد بأنهم يعرفون الغيب ويطلعون عليه وما شابه ذلك.

وجمعية العلماء جاءت لتصحيح أوضاعاً فاسدة ولم تأتِ لتقيم خصومات مع هؤلاء أصحاب القباب، ولهذا كانت حريصة على اختيار الألفاظ التي صبغت بها هذه الأصول، فلم نجد كلمة تدل صراحة أو تلميحاً إلى التكفير أو الإخراج عن الملة مع هذا الموقف الحساس.

إن صفاء عقيدة الإسلام من شوائب الشرك والوهم والخرافة، كفيل أن يسعد البشرية كما أسعد السابقين من الصحابة والتابعين، وكفيل أن يداوي جراحاتها ويمسح عنها الامها النفسية ؛ إنها العقيدة وما تملكه من قوة ذاتية. (معالم الفكر السياسي ص 44)

المحور الثاني: خُصص للتعريف بالإسلام وذكروا تحته أصولاً.

الأصل الأول: الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله وكمّله على يدي نبيه محمد (ص) الذي لا نبي بعده.

الأصل الثاني: الإسلام هو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به وذلك لأنه:

أ ـ كما يدعو إلى الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين يذكر بالأخوة الإنسانية بين البشر جميعاً.

ب ـ يسوّي في الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية بين الأجناس والألوان.

ج ـ لأنه يفرض العدل فرضاً تاماً بين جميع الناس بلا أدنى تمييز.

د ـ يدعو إلى الإحسان العام.

هـ  يحرّم الظلم بجميع وجوهه، وبأقل قليله من أي أحد على أي أحد من الناس.

و ـ يمجد العقل ويدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير.

ز ـ بنشر دعوته بالحجة والإقناع لا بالقتل والإكراه.

ح ـ يترك لأهل كل دين دينهم يفهمونه ويطبقونه كما يشاؤون.

ط ـ إشراك الفقراء مع الأغنياء في الأموال، وشرع مثل القراض والمزارعة والمغارسة، مما يظهر به التعاون العادل بين العمال وأرباب الأراضي والأموال.

ي ـ يدعو إلى رحمة الضعيف، فيُكفى العاجز ويعلّم الجاهل، ويرشد الضال، ويعان المضطر، ويغاث الملهوف، وينصر المظلوم، ويؤخذ على يد الظالم.

ك ـ يحرّم الاستعباد والجبروت بجميع الوجوه.

ل ـ يجعل الحكم شورى ليس فيه استبداد ولو لأعدل الناس.

المحور الثالث: خصص لذكر مصادر الإسلام وجمع سبعة أصول:

الأصل الأول: القرآن الكريم هو كتاب الإسلام.

الأصل الثاني: السنة القولية والفعلية الصحيحة تفسير وبيان للقران.

الأصل الثالث: سلوك السلف الصالح ـ الصحابة والتابعين وأتباع التابعين تطبيق لهدي الإسلام.

الأصل الرابع: فهم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنة.

الأصل الخامس: المصلحة كل ما اقتضته حاجة الناس في أمر دنياهم ونظام معيشتهم وضبط شؤونهم وتقدم عمرانهم مما تقره الشريعة.

الأصل السادس: البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة، ولم يثبت عن النبي (ص) فعله، وكل بدعة ضلالة.

الأصل السابع: الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في الشيخ والتحذير لاتباع الشيخ وخدمة دار الشيخ.

المحور الرابع: جُعل للحديث عن تفاضل الناس وتحته أربعة أصول:

الأصل الأول: أفضل الخلق محمد (ص) لأنه:

أ ـ اختاره الله لتبليغ أكمل شريعة إلى الناس عامة.

ب ـ كان على أكمل أخلاق البشرية.

ج ـ بلّغ الرسالة ومثل كمالها بذاته وسيرته.

د ـ عاش مجاهداً في كل لحظة من حياته في سبيل سعادة البشرية جمعاء حتى خرج من الدنيا ودرعه مرهونة.

الأصل الثاني: أفضل أمة بعده هم السلف الصالح لكمال اتباعهم له.

الأصل الثالث: أفضل المؤمنين هم الذين امنوا وكانوا يتقون وهم الأولياء والصالحون فحظ كل مؤمن من ولاية الله على قدر حظه من تقوى الله.

الأصل الرابع: العمل الصالح المبني على التوحيد به وحده النجاة والسعادة عند الله، فلا النسب ولا الحسب بالذي يغني عن الظالم شيئاً.

المحور الخامس: المنهج العملي للجمعية وتحته أربعة أصول:

الأصل الأول: ندعو إلى ما دعا إليه الإسلام وما بيّناه منه من الأحكام بالكتاب والسنة وهدي السلف

الصالح من الأئمة مع الرحمة والإحسان دون عداوة أو عدوان.

الأصل الثاني: الجاهلون والمغرورون أحق الناس بالرحمة.

الأصل الثالث: المعاندون المستغلون أحق الناس بكل مشرع من الشدة والقسوة.

الأصل الرابع: عند المصلحة العامة من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف يفرق الكلمة ويصدع الوحدة ويوجد للشر الثغرة، ويتحتم التازر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة بإذن الله ثم بقوة الحق وادراع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة.

بعد اتضاح الرؤية على مستوى الفكر والتصور ختموا الأصول ببرنامج عملي نوجزه في ثلاث نقاط:

أ ـ إن عمل الجمعية يخضع للشريعة الإسلامية المحددة في الأصول السابقة التي تدعو إلى كرامة الإنسان، وتحافظ على حريته، وتعامله بالإحسان، ولن تنظر إلى لونه، أو عرقه، أو لسانه، أو دينه، أو انتمائه.

ب ـ إذا ما أساء العملَ شخصٌ ما ؛ إن كان جاهلاً عُلّم، أو غرّر به فُهم مع الرحمة والشفقة عليه، وإن كان عالماً بسوء ما يعمل مصراً عليه يشدَّد عليه ليُلجم عن تضليل غيره.

ج ـ يظهر الأصل الأخير الفهم الواسع والعقل الراجح والفكر الراشد لعلماء الجمعية الذين رتبوا أولويات المعركة، فإذا ما دخلت الأمة في صراع مع الاحتلال فلا ينبغي أن تنشغل بالخلافات المذهبية التي يستغلها العدو الأكبر، بل إن العلم والحكمة والفهم السليم يستدعي الجميع إلى تناسي كل خلاف للمّ الشمل وجمع الصفوف. (معالم الفكر السياسي ص 51)

وختمت الأصول العشرون (عبد الحميد بن باديس الآثار، 3 / 131). بقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *}[يوسف: 108].

ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: (كفاح الشعب الجزائري)، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2015م.
  • سؤال النهضة عند الشيخ عبد الحميد ، د. لطيفة عميرة.
  • عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، مصطفى محمد حميداتو.
  • جمعية العلماء المسلمين ، د. أحمد الخطيب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى