مقالاتمقالات مختارة

جمال الدين الأفغاني: محاولة لكشف الغموض

جمال الدين الأفغاني: محاولة لكشف الغموض

بقلم معتز ممدوح

بين من يراه فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق وأحد أكبر المصلحين الدينيين، ومن يراه من جهة أخرى شخصية غامضة تظهر غير ما تبطن، تختلف الآراء حول جمال الدين الأفغاني، أحد أبرز الشخصيات في التاريخ الإسلامي الحديث.

التناقض الجذري بين ما يقول المحبون، وما يطرحه المنتقدون للرجل يضعنا أمام معضلة كبيرة في التأريخ الدقيق للاتجاهات السياسية والفكرية في عالمنا الإسلامي المعاصر، التي تعود في جذورها إلى حد بعيد لتأثيرات قادمة من الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وهي تأثيرات تركت بصمتها للمفارقة على تيارات شديدة التباين والاختلاف، منها ما هو سلفي محافظ، ومنها ما هو علماني ليبرالي.

من الصعوبة بمكان أن نفصل من جانبنا هنا برأي في هذه المسألة التاريخية الجدلية، ولكن عوضًا عن ذلك سنستعرض في المقابل عبر سلسلة من التقارير للأوجه المتعددة شخصية الأفغاني المثيرة للجدل وبعض آراء محبيه من جهة ومنتقديه من جهة أخرى، وهو ما سيعطينا لمحة عن حجم الإشكال والتعقيد الذي يقف الباحثون والمؤرخون إزاءه في تلك القضية الإشكالية والشائكة.


جدل الهوية

يبدأ الجدل والخلاف الذي لا ينتهي حول حقيقة شخصية جمال الدين الأفغاني بدءًا من اسمه ومكان ولادته الحقيقي، حيث يقول تلميذه محمد عبده إن جمال الدين ولد في قرية «أسعد آباد» الواقعة في «كنر» من أعمال كابل عاصمة بلاد الأفغان، من أسرة عريقة تنتسب إلى آل البيت، كانت لها سيادة على جزء من الأراضي الأفغانية.[1]

بينما يذهب الكثير من المتخصصين من جهة أخرى ككارل بروكلمان المستشرق الألماني المعروف في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية» إلى أن جمال الدين ولد في «أسد آباد» قرب همدان، إحدى مقاطعات إيران، وإنما آثر أن ينسب نفسه بحسب ما يقول بروكلمان إلى أفغانستان لأسباب سياسية.

يدعم ذلك الزعم – بحسب المتشككين في هوية الأفغاني – قرائن مادية على أرض الواقع، ألا وهي أن تلك القرية هي المكان الذي يوجد به بقايا أسرة جمال الدين بالفعل، وهو ما يرد عليه الكاتب المعروف د. محمد عمارة والمؤيد بحرارة للأفغاني بأن تفسير ذلك أنه: «ليس ببعيد أن تكون الأسرة أو نفر منها قد انتقلت إلى قرية «أسد آباد» بإيران»، وعمارة لا يقطع بذلك كما يظهر من حديثه، ولكن يبدو أنه يحاول أن يقدم تفسيرًا من جانبه في هذا الإطار.[2]

لا تقف الشبهات المثارة حول هوية جمال الدين عند تلك النقطة، بل تتعداها إلى قضية اسم أبيه وهو «صفتر» – بحسب بعض من ترجم له كعمارة وغيره – أو «صفدر» – بحسب البعض الآخر – والأخير هو اسم فارسي يلقب به الشيعة  الإيرانيين «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه، ومعناه هو مفرق الصفوف وهو كناية عن الشجاعة والإقدام في الحرب، وهو ما يرد عليه عمارة بأن اسم أبيه هو صفتر وليس صفدر، وبأن علي بن أبي طالب في كل الأحوال هو محل حفاوة وإجلال لدى السنة والشيعة على حد سواء.


يقولون عن الأفغاني

ولكن بعيدًا عن كل هذا الخلاف يحسم تقريبًا ذلك الجدل حول الهوية الحقيقية لجمال الدين الأفغاني الزيارات الميدانية من الأكاديميين والباحثين من أمثال د. عبد المنعم حسنين، رئيس قسم اللغات الشرقية وآدابها بكلية الآداب بجامعة عين شمس والعميد السابق لكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر، الذي زار «أسد آباد» مسقط رأس جمال الدين، والتقي أفراد عائلته في خريف عام 1950م، وهي عائلة تتمتع باحترام فائق هناك.[3]

التقى حسنين في تلك البلدة عددًا من أفراد عائلة جمال الدين المشهورين – آنذاك – وهم السيد هادي روح القدس وميرزا شريف خان وعطاء الله خان، وميرزا لطف الله ابن أخته ومؤلف الكتاب الشهير عن سيرته، الذي يحوي عددًا كبيرًا من وثائق ورسائل الأفغاني المكتوبة بخط اليد والصور الفوتوغرافية.[4]

بحسب المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي الشهير علي الوردي المعروف بموضوعيته واعتداله، تعتبر عائلة جمال الدين من أعرق الأسر العلمية الشيعية والسياسية في أسد آباد همدان، كما يجدر بالذكر أن عددًا من أسلاف السيد جمال الدين بحسب الوردي كانوا في منصب شيخ الإسلام في العصر الصفوي، وهو أعلى المناصب الدينية في ذلك الوقت، وإجمالاً فإن حقيقة كونه همدانيًا أسد آباديًا بحسب الوردي هي أمر لا يعتريه شك أو شبهة.[5]

وقد وجد في أمتعة جمال الدين الأفغاني التي تركها لدى صديقه الحاج محمد أصفهاني أمين الضرب في طهران جواز سفره ومستندات ووثائق ومستمسكات تقطع بالفعل بإيرانيته.[6]

يقول عبد المنعم حسنين المحب والمؤيد للأفغاني، بغير أي انتقاد منه موجه للأخير، إنه لا أثر لعائلة جمال الدين في بلاد الأفغان، وإن هذه حقيقة لا ينكرها الأفغان أنفسهم، بل منهم من يقر كالأمير عنايت الله خان عم أمان الله خان ملك الأفغان الأسبق بأن جمال الدين إيراني الأصل شيعي المذهب.[7]

وقد حرص الأمير المذكور – بحسب حسنين – أثناء سفره من طهران إلى بغداد على النزول إلى قرية أسد آباد بالقرب من همدان، ومكث بعض الوقت اجتمع في أثنائه ببعض أفراد أسرة جمال الدين، وتحدث معهم وزار قبور أجداده، والدار التي ولد فيها.

جدير بالذكر أن جامعة طهران نشرت في عام 1963 مجموعة من الوثائق للأفغاني أو المتعلقة به، تقوض الأسس التي تقوم عليها ما يتبناه الباحثون العرب وفي مقدمتهم الدكتور محمد عمارة، وقد استفاد الباحثون الإيرانيون من هذه الوثائق في أبحاث جادة، من أهمها كتاب الباحثة هوما باكرمان «جمال الدين أسد آبادي المشهور بالأفغاني» الذي نشر بالفرنسية سنة 1969، وهو في الأصل رسالة دكتوراه أعدت بإشراف عالم الاجتماع والدراسات الشرقية الشهير مكسيم رودنسون.[8]

استفادت أيضًا من وثائق جامعة طهران في هذا السياق الباحثة الأمريكية نيكي كيدي، وذلك في مؤلفها الضخم الشهير «جمال الدين الأفغاني: سيرة سياسية» الصادر بالإنكليزية في عام 1972. الذي اعتمدت فيه على مصادر معلومات متنوعة كذلك مثل أجهزة المخابرات وتقارير وزارات الخارجية.[9]

في إطار بحثها قامت كيدي بالبحث في المحفوظات الهندية، وسافرت إلى إسطنبول وطهران والقاهرة، وعثرت في إسطنبول على بعض الوثائق، ثم اطلعت في طهران على مجموعة محفوظات الأفغاني وكتبه بمكتبة المجلس، والتقت عددًا من أقاربه والباحثين في سيرته.[10]

كما سافرت كيدي أيضًا إلى فرنسا واطلعت على محفوظات المحافل الماسونية بباريس، ومحفوظات الخارجية والشرطة الفرنسية، ثم توجهت إلى لندن فاطلعت على الوثائق المحفوظة بمكتب الوثائق العامة ومكتب علاقات الكومنولث، ثم خرجت لنا في الأخير بمؤلفها المهم والضخم عن سيرة جمال الدين الأفغاني.[11]

يخلص الكاتب والأكاديمي التونسي محمد الحداد في كتابه «الأفغاني – صفحات مجهولة من حياته» إلى أن المدرسة العربية التي سبقت غيرها في الاهتمام بالأفغاني أصبحت اليوم في آخر الصف، وصارت مرادفة للتخلف في مجال البحث الأكاديمي، نتيجة لتمسكها بالوثائق العربية وحسب حول جمال الدين، وإهمالها الدراسات والوثائق الجديدة الأخرى التي ظهرت خلال نصف القرن الماضي.[12]

من يحسن الظن بالأفغاني من المؤرخين والباحثين العرب يلتمس للأفغاني العذر في إخفائه هويته الحقيقية، نظرًا للحساسيات المذهبية التي كانت ستضر حتمًا بدعوته الثورية، ولاسيما في إسطنبول والقاهرة، وخصوصًا في المدينة الأولى التي مازالت آثار العداء التاريخي بين الصفويين والعثمانيين محفورة في ذاكرة أبنائها، ومن يسء الظن بالرجل يعتبر أن ذلك التدليس المتعمد في تلك المسألة هو جزء من النزعة السياسية التآمرية والمريبة التي طبعت دعوته، التي يحيط بها العديد من الشبهات، من أبرزها على سبيل المثال انتسابه إلى المحافل الماسونية وعلاقته غامضة المعالم بالدعوة الدينية البابية في إيران.

وبوجه عام يخضع الجدل حول هوية الأفغاني في عالمنا العربي على نحو واضح لمنابذات السياسة والأيديولوجيا، على خلفية تباين المرجعيات الفكرية والسياسية للباحثين، دون استثناءات في هذا الإطار، إلا فيما ندر، على نحو يعكس الأزمة الحقيقية التي يعاني منها عقلنا العربي والمسلم الراهن، حيث تهبط اعتبارات الحياد والموضوعية في مقابل صعود نزعات التسييس والتطييف.

(المصدر: موقع “إضاءات”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى