مقالاتمقالات المنتدى

توبة واجبة في لحظة فارقة

توبة واجبة في لحظة فارقة

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

 

مفهوم التوبة الجماعية، من أغنى المفاهيم في القرآن والسنة النبوية. فالمجتمع المسلم، مجتمع أواب مجاهد، شعاره التوبة الدائمة. وقد جاء ذِكر التوبة النصوح في القرآن الكريم كثيرا، مرتبطة بالجماعة لا بالفرد، ومنها قول الله عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فالتوبة الجماعية في القرآن، تتضمن التوبة الفردية وهي مندرجة فيها، وليس العكس صحيحا. والتوبة الجماعية هي مطلوب القرآن، لأنها تحمل لمسئولية فكرة الإقرار بالمسئولية من الجماعة.

التوبة وتوزيع اللوم على الجميع

والتوبة الجماعية، توزع المسئولية واللوم على الجميع من أبناء الأمة، وتشركهم في تحمل تبعات الأخطاء والخطايا التي تهلك الأمة وتضعف كيانها، وتسهل التقاؤهم لتدارس أخطائهم وتصفية خلافاتهم.

وهي كذلك، تخفف من حدة تبادل الاتهامات عن الفشل والتنازع بين قوى الأمة، وتيسر أرضية للتقابل والحوار بين الجميع على أرضية ”وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”، فتمهد أرضية المجتمع لتصالح حقيقي بين أبناء المجتمع، يكون أساسا لبناء جديد قوي نحتاجه هنا والآن.

كل هذا، بعكس التوبة الفردية، التي تحمل الفرد وحده تبعات أخطائه، ولا تحمل المجتمع نصيبه من تهيئة الظروف، لأخطاء الفرد التي تتسبب في وقوعه فيما يضره، ويضر أمته.

تجربة تستحق التأمل

في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، حدثت واقعة دالة ومعبرة حكاها الدكتور إسماعيل الفاروقي –رحمه الله-، ونقلها عنه المرحوم الدكتور طه جابر العلواني في كتابه: مقدمة في إسلامية المعرفة، وملخصها: أن الرئيس الأمريكي دعا الدكتور الفاروقي، ومعه عشرة من علماء أديان مختلفة -ومنهم مسلمون-، وجلس معهم من التاسعة صباحا إلى نهاية الدوام، يناقش هؤلاء العلماء موضوعا واحدا هو: مفهوم التوبة: ما معنى التوبة في الأديان كلها؟ وكان سبب الدعوة أن الإمام الخميني، ذكر أنه لن يغفر لأمريكا إساءاتها ضد إيران إلا إذا تابت.

ويحكي أيضا الدكتور طه جابر-رحمه الله-، عن نقاش دار في أمريكا في منتصف التسعينات من القرن الماضي حول: توبة الأمم: هل الأمم إذا أخطأت بحق أمم أخرى تجب عليها التوبة؟ وكيف تكون توبة الأمم والشعوب والحكومات؟ موضوع لم يخطر لنا على بال كما يقول متعجبا الدكتور طه رحمه الله.

تستحق هاتين الواقعتين التأمل الطويل، والدراسة الواعية المنفتحة لهما، والاقتداء بهما، ونحن نفكر في إصلاح أحوال أمتنا العربية المسلمة على مستوى العلاقات بين الدول والأنظمة من جانب، وعلى مستوى العلاقات بين الأنظمة وشعوبها من جانب ثان، ومن جانب ثالث على مستوى العلاقات بين أطياف كل مجتمع عربي على حدة.

وجدير بنا، بل نحن بحاجة حقيقية، لاسترجاع هذه الروح، التي انطلق منها كارتر كرئيس ومواطن، والإعلام الأمريكي كموجه للرأي العام، ودوره في تنوير عقول وقلوب الأمريكيين وتنقية ضمائرهم مما علق بها من جرائم في حق أمم أخرى، ونحن نتعامل مع واقعنا الأليم الحالي. فحاجتنا، كمجتمعات إسلامية وعربية لطرح هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً من المجتمع الأمريكي، ونحن أولى بهذه الأسئلة ، أولا: لغنى مفهوم التوبة الجماعية في ديننا، وأثره في بناء واستمرار حضارتنا، وثانيا: بسبب وضعيات مجتمعاتنا المتردية، التي هي في أشد الحاجة لتوبة جماعية واجبة وصادقة.

اعتقد أننا بحاجة اليوم أن نطرح تساؤلات مشابهة، لما طرحه كارتر ووسائل الإعلام الأمريكية، فعلينا أن نتساءل بكل جد عن:

 أن الله والناس من أهلنا الطيبين، لن يقبلوا للحكام والمعارضين توبة، ولن تغفر لهم إساءاتهم للأمة، إلا إذا تابوا عما يقومون به من تخريب لمقدرات الأمة، وقتل مادي ومعنوي لأبنائها ؟

وأن الله والناس الطيبين، لن يقبلوا لجماعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية توبة، إلا إذا كفت عن كل التصرفات التي تتسبب في هلاك الأمة وتفرقها

وأن الله والناس الطيبين، لن يقبلوا لأي حاكم عربي توبة، وهو يفتعل المشكلات مع جيرانه من حكام الدول الأخرى، ولن تقبل له توبة وهو يعامل المواطنين من الدول العربية الأخرى معاملة لا تليق بأخوة الدين والقومية-وخصوصا الفلسطينيين ومن لحق بهم من مشردي سوريا وليبيا وغيرهم.

وأن الله لن يقبل توبتنا جميعا ويقبلنا عنده، إلا إذا تبنا جميعا عن حالة الصراع التي لا تنتهي فيما بيننا، وعن حالة اللامبالاة لما وصل إليه حالنا من تردي ضياع، حتى نقوم عن يد واحدة فنصلح أخطائنا بالطرق السلمية التي تحفظ أوطاننا وتحرر إنساننا العربي المسلم، عبر التوبة الجماعية الشاملة.

ما العمل؟

وهذه التساؤلات، تسلمنا إلى التساؤل الطبيعي التالي عن: كيف نتوب؟ وما هي الوسائل المؤدية للتوبة الجماعية من هذا الظلم الذي وقع من الحكام والمعارضين، ومن الافراد والجماعات في كل المجالات على الأمة؟

والجواب نقترحه في:

 أن يقوم كل رب أسرة، وكبير عائلة، رئيس دولة، أو جماعة أو حزب، أو مصلحة حكومية، أو منظمة أهلية، بالتشاور مع عشرة من العقلاء عن مفهوم التوبة الحضاري، وكيف نحقق توبة جماعية حقيقية تسهم في خروجنا من هذا التردي الذي نعاني منه بسلام، كل في مجال سلطته وحدود تأثيره.

وأن يناقش الإعلام بكافة توجهاته، خاصة الإعلام البعيد عن توجهات المال المشبوه أو سياسة فرق تسد، هذه التساؤلات، ويطرحها كحملة للتفكير، داخل عقل وقلب كل فرد، وجدران كل بيت من بيوتنا في صيغة موحدة: كيف نتوب عما نفعله من رذائل وفتن وفرقة تؤدي لتقطيع الأواصر بين أبناء أمتنا، وتتسبب في إضعافها وتمكين الاستعمار من نهبها وتمزيق وحدتها، مستغلين في ذلك حالة الروحانية العالية التي تتلبس معظم المسلمين بعد ما حدث يوم السابع من أكتوبر من نصر عظيم، لحثهم على تبني مفهوم التوبة الجماعية وتطبيقه في حياتهم

ماذا لو؟

لو أننا جعلنا هذه التوبة الجماعية، شعارنا، في كل لحظاتنا في: المساجد والصلوات والخلوات والسهرات والفضائيات ووسائط التواصل الاجتماعي والجرائد والمجلات، وجعلنا محور أحاديثنا واهتمامنا تنصب في اللحظة من عمر أمتنا على المفهوم القرآني للتوبة الجماعية، مستفيدين من معين القرآن الكريم وخبراتنا وخبرات المجتمعات المعاصرة،  للخروج من مأزق الكراهية وفقدان الثقة والفرح اللاهي، أو الاستبداد الطاغي، واللامبالاة القاتلة التي نحياها اليوم، لكان هذا خير استقبال لعامنا الهجري الجديد، وتحقيق لمقاصد إنزال القرآن فيه.

فهل يمكن أن نجد صدى لهذه الدعوة، للتوبة الشاملة  عسى الله يقبل توبتنا، ويبدل حالنا، فنكسب السلام لشعوبنا، وعقولنا، وقلوبنا، وسواعدنا الشابة، ونتخذ القرآن الكريم إماما لنا، فنتبع هديه في دعوته لتوبة واجبة طال انتظارها، حتى تخرج أمتنا من التيه الذي طال؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى