تقديم كتاب” نظام الحكم في الإسلام” للدكتور محمد عبد الله العربي
عرض أ. محمد المبارك
كنت أصغي باهتمام إلى متحدِّث عن الدولة في الإسلام في الندوة العالميَّة للدراسات الإسلاميَّة التي دعت إليها جامعة لاهور سنة 1957 – وكنت أحد أعضاء الوفد السوري إلى تلك الندوة – وكان يأخذ بلبِّي ويثير انتباهي أفكار هامَّة جديدة في الموضوع ما اعتدنا أن نسمع أو نقرأ مثلها فيما يُكتب في الموضوع، وكان المتحدِّث هو الأستاذ الدكتور محمد عبد الله العربي، أحد أعضاء الوفد الذي كان يمثِّل مصر يومئذ بأزهرها وجامعاتها، وكان وفدًا على أعلى المستويات الفكريَّة.
لقد كان البحث الذي قدَّمه الدكتور العربي يومئذ موضع إعجابي، فإني عانيت بحثه، وكنت أدرِّسه في جامعة دمشق في كلية الشريعة باعتباره جزءًا من “نظام الإسلام” وهي مادة جديدة كنا أدخلناها في خطة الكلية، وبلغ من إعجابي به يومئذ أني طبعت منه نسخًا لتوزَّع على الطلاب؛ ليكون مرجعًا لهم في بحث نظام الحكم في الإسلام؛ إذ وجدت ضالتي فيه، ولم أكن متفرِّغًا للكتابة من جهة أخرى.
لقد كان الجديد في هذا البحث صياغته الحقوقية، وتحليله الدقيق، وجِدة العرض، وبوجه خاص ادخال عناصر في البحث كان ولا يزال كثير من الباحثين لا ينتبه إلى إدخالها، وذلك لأنهم يحتذون في بحث الدولة الإسلاميَّة ما عند الغربيين في بحث الدولة، وهذه العناصر ليست ماثلة في أبحاثهم ولا في مفاهيمهم السياسيَّة، هذه العناصر هي صلة النظام السياسي بالأسس العقائديَّة والتعاليم الأخلاقيَّة.
كان ذلك اللقاء على الصعيد العلمي بداية صداقة بيني وبين الدكتور العربي، وكانت الأيام تزيدنا توثقاً لما عرفت فيه حفظه الله من سمو الخلق والتواضع الجمّ وما كشفت فيه من عظيم الهمَّة وشديد الغيرة على إحياء الإسلام وبعثه فقد بقي كما عهدته متَّجهاً إلى الغوص في تراثنا الإسلامي، والبحث عن مبادئ الإسلام نفسه في ميادين الاقتصاد والسياسة ليعرضها العرض الذي يتناسب مع أسلوبنا في التفكير وظروف حياتنا المعاصرة، ويكشف لنا ما فيها من عمق الغور والأصالة الذاتيَّة والقدرة على الخلود.
ثم أتيحت لي فرصة ثمينة أخرى التقيت فيها مع الدكتور العربي على الصعيد نفسه، فقد كان الفضل لجامعة أم درمان الإسلاميَّة العظيمة في أن جمعتنا في كنفها إذ دُعيت إليها منذ العام الجامعي 1966-1967 للمساهمة في التدريس والتخطيط، ودُعي الدكتور العربي بصفة أستاذ زائر بقدر ما يسمح له وقته ليحاضر في مبادئ الحكم ومبادئ الاقتصاد في الإسلام، وهما الموضوعان اللذان شغلا من تفكيره ووقته وجهده الشيء الكثير، وكان كذلك أن نظَّمت الجامعة ندوة علمية للقرآن الكريم بمناسبة مرور أربعة عشر قرناً على نزوله، وألقى الأستاذ العربي بحثه هذا الذي أقدِّمه للقرَّاء على أنه خلاصة تلك الأبحاث التي سبق له أن قدَّمها وشرح بعض جوانبها ومحاولة تطبيقها في ظروف عصرنا الحاضر.
إنَّ الذين كتبوا في موضوع الحكم أو النظام السياسي في الإسلام في هذا العصر الحديث متعددون، وتختلف مناهجهم في البحث وآراؤهم، ومن هؤلاء قلة قليلة حاولت إقصاء هذا البحث وإماتته وادِّعاء أنَّ الإسلام لا يقرِّر للحكم نظماً ولا مبادئ، ولا شأن له بإقامة الدولة، وقد أصبح هؤلاء صفحة مطوية من التاريخ بعد أن نضجت في أوساط الحقوقيين وأهل الفكر بل في جمهور الشعب فكرة احتواء الإسلام على العناصر الأساسيَّة والمبادئ العامة الضروريَّة لإقامة الدولة والمجتمع.
وتبيَّن للباحثين أن هؤلاء كان هدفهم إمَّا التمهيد لنظام كمال أتاتورك في بداية عهده، وإمَّا معارضة الحكم القائم يومئذ في مصر.
ومن الباحثين في هذا الموضوع من سلكوا طريق البحث التاريخي، وحاولوا إبراز الدولة الإسلاميَّة في آراء أصحاب المذاهب من المسلمين نظريًّا وفي صورتها التاريخيَّة منذ عهد النبوة عمليًّا وعرض ذلك كله في صورة جديدة مقترنة بالتحقيق التاريخي والبحث المقارن كما فعل الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه القيم (النظريَّات السياسية الإسلامية، 1953الطبعة الأولى).
ومنهم من اتخذ طريق تحديد معالم الإسلام في المجال السياسي، والموازنة بالنظم الأخرى، والدفاع عن النظام الإسلامي كما فعل أبو الأعلى المودودي في أبحاثه المتعدِّدة القيِّمة (ما بين 1939 -1952) التي جمعت أخيراً في كتاب واحد بعنوان: (نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور)، ونكتفي بالتمثيل بهذين الباحثين لما في أبحاثهما من دقَّة وشمول واستقامة في الاتجاه وسَبْقٍ لمن كتبوا بعدهما في هذا الميدان.
لم تكن طريقة الدكتور العربي في عرضه للموضوع جمع آراء المتقدمين ومناقشتها، ولا استعراض مختلف الآراء الحديثة حول الموضوع وإنما كانت فكرة تركيبيَّة حاول هو شخصيًّا أن يستخرجها من مبادئ الإسلام، وأن يتَّخذ لها صيغة تطبيقيَّة في ظروف العصر الحديث، وهو بذلك أراد أن يخرج الموضوع من حيِّز البحث التاريخي المجرَّد إلى مجال الحياة والتطبيق، ويشعر القارئ خلال البحث أن المؤلف مؤمن ايماناً عميقاً ليس بصلاحيَّة الإسلام للحياة فحسب، بل بأفضليَّته على سائر النظم القائمة.
ولذلك كان الأستاذ العربي يُعنى بإبراز الخصائص المميزة للدولة الإسلاميَّة التي تجعل منها طرازاً قائماً بذاته ونسيج وحده. ومن ذلك عنايته الخاصَّة بإبراز ما سمَّاه الكيان الروحي للدولة إلى جانب الكيان المادي، وعناية الدكتور العربي بهذا الجانب قديمة، فهو يرى – وهو بذلك محقٌّ كل الحق – أنَّ التعاليم العقائديَّة والأخلاقيَّة في الإسلام ذات صلة وثيقة بنظامه السياسي والاقتصادي.
ولكنه في بحثه هذا الذي أقدِّمه اكتفى بالإشارة إلى ذلك دون أن يفصِّل هذا الارتباط بين الكيان الروحي – العقائدي الأخلاقي – والكيان المادي (الأمَّة والأرض وأجهزة السلطة)، وكنت أتمنى لو تبسَّط قليلًا في هذه الناحية هنا أيضًا فإن المبادئ الأساسيَّة للنظام السياسي في الإسلام مستقاة من الجانب العقائدي ويمكن تلخيصها بما يأتي:
1 – البشر كلهم على اختلاف شعوبهم وألوانهم وطبقاتهم عبادُ الله، فليس أحد من البشر إلهًا سواء أكان فردًا أو جماعة، وكل تمييز تقديسي أو استعلاء لفرد أو طبقة أو أسرة أو هيئة أو سلطة يناقض هذا الأساس، ويعتبر ضربًا من الشرك والتأليه لغير الله تعالى.
2 – البشر على هذا متساوون في أصل جنسهم ونشأتهم، وهم في مجموعهم تنظمهم وحدة شاملة مبنيَّة على وحدة الأصل، وعلى الاشتراك في العبوديَّة لله تعالى دون سواه، ومن هنا تنشأ فكرتا المساواة والوحدة الإنسانية. وللإنسان في أصل خِلقته كرامة خصَّه الله سبحانه بها، وليس لأحد الحط منها أو انتهاك حرمتها.
3 – كل فرد من البشر مسؤولٌ؛ لأنه مخلوق، ولا يُعفى من المسؤوليَّة أحد سواء أكان حاكمًا أم رعيَّة.
4 – المسؤوليَّة نوعان: أحدها: تنظمه الشريعة الإسلامية لإنتاج نتائجه في الحياة الدنيا، والثاني: مسؤوليَّة عظمى أمام الله سبحانه في حياة آخرة خالدة، وكلٌّ من نَوْعَي المسؤوليَّة له موقعه.
5 – المصدر الأساسي للتشريع البشري هو عين المصدر الأساسي للتشريع الكوني ولقوانين الطبيعة، وهو الله الخالق، والتعليمات الإلهيَّة تلقَّاها البشر عن طريق الأنبياء، وآخر هؤلاء الرسل وأشملهم رسالةً هو محمد بن عبد الله صلوات الله عليه، وهو الذي بلَّغ البشريَّة تعاليم خالقهم لتوجيه حياتهم، وهم متساوون أمامها، فلا وجود لطبقة تسمَّى (رجال دين) تحتكر فهم هذه التعاليم وتفسيرها وإنما هي مشاعَة لكلِّ مؤمن بها يتمكَّن من تعلُّمها وفهمها.
فالمشرِّع الحقيقي هو الله وليس الإنسان إلا منفِّذًا ومجتهدًا في الفهم والتطبيق.
6 – تقوم الدولة الإسلامية على أساس تحرير البشر من أنواع العبوديَّة لغير الله تعالى، والتزام مبادئ رسالة الإسلام وحمايتها وتطبيقها ونشرها.
وقد فطن المؤلف ونبَّه إلى الوحدة القائمة بين المنتسبين إلى الإسلام عقيدة ونظامًا، ولذلك عُني بالربط بين الشعوب الإسلاميَّة التي تقوم فيها في الواقع الآن دول متعدِّدة لا دولة واحدة، فلم يهمل ما يمكن عمله من التعاون والتنسيق بين هذه الدول إذ لم يمكن أن تكون دولة واحدة لهذه الشعوب جميعًا فكان بذلك واقعيًّا ومثاليًّا في آن واحد.
وقد أحسن المؤلف كل الإحسان إذ ميَّز بين المبادئ العامة التي جاء بها الإسلام في القرآن والسنة، وتفصيلات النظام السياسي التي تُركت لاختلاف الأحوال وتطورات البشر كما أنه كانت منه لفتة بارعة في مشكلة يصادفها الباحث في كتبنا القديمة وآراء سلفنا كالماوردي وأبي يعلى وابن تيمية، ذلك أنهم يقولون من جهة أنَّ أهل الحل والعقد هم الذين يختارون الخليفة، ويقولون من جهة أخرى أنَّ البيعة تتم بأهل الشوكة والجمهور والسواد الأعظم. فكيف يمكن التوفيق بين الرأيين؟
يرى الدكتور عبد الله العربي أنَّ ثمة مرحلتين: أولاهما: مرحلة الترشيح لمنصب الخلافة، وهذه يقوم بها أهل الحل والعقد، والثانية: البيعة التي تجعل خلافة الأمير مشروعة، وهذه تكون للجمهور والسواد الأعظم وأهل الشوكة.
وقد اختار المؤلف فصلين من بحث النظام السياسي وبحثهما بشيء من التفصيل في ضوء المبادئ الإسلاميَّة وهما: رياسة الدولة والشورى، وحاول أن يعطي كلًّا منهما الشكل الحديث الذي يراه منسجمًا مع المبادئ الإسلاميَّة.
لقد تخلَّص المؤلف من الاعتراضات التي تثار أمام منصب الخليفة بسبب الصورة التاريخيَّة التي توحيها هذه الكلمة بأن عدل عن استعمالها عدولًا تامًّا إلى تعبير آخر هو رياسة الدولة، وأرى أنه كان موفَّقًا في خطته هذه، فالحقيقة أن (الخليفة) ليس إلا رئيس الدولة في الدولة الإسلاميَّة، وكثير من المعاني والظلال والهالات التي أحيط بها هذا اللفظ (الخليفة) عارضة غير أصيلة، بل هي أحيانًا دخيلة، ولا علاقة لها بمبادئ الإسلام، بل قد تكون مخالفة لها ومتنافرة معها.
إنَّ هذا التصوُّر لمدلول (الخليفة) مع ما علق به تاريخيًّا من ملابسات وصفات جعل بعض الباحثين في هذا الموضوع يخلقون مشكلة لا وجود لها ، وحال بينهم وبين الفهم الصحيح لمعنى الخلافة، وجعلهم يعتقدون تعذُّر قيامها، بل استحالته، إمَّا بسبب عالميتها وشمولها شعوبًا كثيرة مع أن بعض الدول الحاضرة تضمُّ قوميات وشعوبًا كثيرة، وإمَّا بسبب ما زعموا من صبغتها الدينيَّة أو شمول وظيفتها لأمور دينيَّة مع أنَّ كثيرًا من رؤساء الدول ومن الحكومات في أوربا نفسها ترعى شؤونًا دينيَّة كبناء الكنائس ونشر التعليم الديني حتى في الجامعات .
ولم ينتبه هؤلاء المؤلفون إلى أنَّ الدولة الإسلاميَّة دولة قائمة على التزام عقيدة معيَّنة، وفلسفة معيَّنة في الحياة، وهذا موجود في العصر الحاضر في دول ليست دينيَّة، كما لم ينتبهوا إلى الطبيعة الخاصَّة بالأنظمة الإسلاميَّة عامَّة، وأنه لا ينطبق عليها إطلاقًا التقسيم إلى ديني ومدني، فهي لا توصف بالدينيَّة بالمعنى الأوربي المسيحي، ولا باللادينية، ولذلك كان الدكتور العربي موفَّقًا بهذا التَّحويل الصحيح، فليس الخليفة إلا رئيس الدولة في النظام الإسلامي.
على أني استجابة لنداء الأستاذ الدكتور العربي إذ قدَّم بحثه على أنه محاولة اجتهاديَّة، وأنه كما قال أيضًا عمل قابل للتعديل والتطوير لا أعفي نفسي من أن أبدي رأيي في عدد قليل من الآراء والمواقف التي يختلف فيها رأيي عن رأيه مع علمي بمنزلة هذا البحث وبقيمته العظيمة.
فمن ذلك: الشروط التي جعلها لازمة ومؤهِّلة لرياسة الدولة، وهي في تلخيصه: أن يكون مسلمًا رشيدًا، ورجلًا تقيًّا، وهذه الشروط في رأينا فضفاضة واسعة، وهي تنطبق على كل ولاية أو وظيفة، بل على كل عمل مهما يكن عاديًّا وبسيطًا في حين أننا لو نظرنا إلى ما اشترطه العلماء السابقون من المسلمين لوجدنا أنهم اشترطوا – عدا القرشيَّة التي سنتكلَّم عنها – شروطًا علميَّة وفكريَّة، وخُلقيَّة دينيَّة، وسياسيَّة.
فالأصل في رئيس الدولة الإسلاميَّة – الخليفة أو الإمام – أن يكون مجتهدًا إن أمكن أو عالمًا، له بالإسلام – الذي هو خطَّة الدولة والفكرة التي تلتزمها – معرفةٌ عميقة واعية، ولذلك قال أبو يعلى: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين.
هذا هو الشرط العقلي والعلمي، وأما الشرط الأخلاقي فقد عبروا عنه بالعدالة، وهي صفة لمن كان عدلًا يوصف بها الرواة والشهود، وهي مجموع صفات أخلاقيَّة، من الصدق والأمانة والاستقامة ورعاية الآداب الاجتماعيَّة. وكذلك أشير إلى هذا الشرط في قولهم (وأفضلهم في الدين)، وأما الشرط السياسي فظاهر في قول أبي يعلى والماوردي: (أن يكون قيِّمًا بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود والذبِّ عن الأمَّة).
فإذا نقلنا معاني هذه التعابير لما يقابلها في عصرنا وجدنا أن المقصود بها: الخبرة السياسيَّة والمقدرة الإداريَّة. وقد لخَّص ابن تيمية شروط الولاية بوجه عام – ويدخل فيها رياسة الدولة – بشرطَي القوَّة والأمانة، وفسَّر القوة بأنها المقدرة المناسبة للعمل الذي سيوكل إليه، فإن كانت ولاية ماليَّة كانت خبرة في الشؤون المالية، وإن كانت ولاية حرب كانت الخبرة في الشؤون الحربيَّة.
والأمانة شرط أخلاقي، وأما التقوى أو ما نسمِّيه اليوم بالتديُّن الشخصي فيُراعى بقدر الإمكان عند ابن تيمية كل هذا مع اتفاق الجميع على اشتراط صفة الإسلام والايمان ويضيف بعضهم – ومنهم ابن تيمية – القدرة والتمكين أي استلام السلطة الفعلية، ولكن هذا الشرط لا يكون حين الترشيح ولا قبل البيعة بل بعدها، وقد وضع في مقابل نظرية الشيعة في الإمامة.
وأما شرط القرشيَّة فأنا لا أوافق المؤلف على طريقته في مناقشة هذه القضية فقد قال: (إنَّ فقهاءنا حدَّدوا شروط اختيار الإمام أو رئيس الدولة تحديدًا مقبولًا لولا أنهم جعلوا القرشية من هذه الشروط) ثم عاد فقال: إن هذا الشرط: (لم ينص عليه القرآن)، وختم قائلًا: (وقد قررنا اهدار هذا الشرط).
المسألة دقيقة ومتشعبة؛ أما بالنسبة إلى الماضي وإلى عهد صدر الإسلام فالأمر مقبول وتعليله الاجتماعي واضح، ويتجلَّى في مناقشة أهل السقيفة وإقرار الأنصار أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من العرب؛ أي قريش، فقريش كانت لها منزلة عند القبائل من جهة، وكانت تؤلف الدعامة القويَّة التي تعضد الخليفة، وتسنده شعبيًّا، وكان الرسول عليه السلام يراعي في التولية الاعتبارات الاجتماعيَّة دون أن يكون ذلك ماسًّا بمبادئ الإسلام.
وأما أن يكون هذا الشرط باقيًا ومستمرًّا فتلك مسألة أخرى يجب أيضًا معالجتها في ضوء مبادئ الإسلام وأصول استنباط الأحكام، وقول الأستاذ الدكتور العربي أنه لم ينص على ذلك في القرآن لا يكفي في ردِّ هذا الشرط؛ لأن الأستاذ نفسه استند في بحثه إلى السنَّة وأقرَّها باعتبارها مصدرًا، وهي كذلك في نظر فقهاء الإسلام. والمعروف أنَّ جميع فقهاء أهل السنة باستثناء القاضي أبي بكر الباقلاني فيما نعلم أقرُّوا هذا الشرط بالاستناد إلى حديث صحيح، ولذلك لا يجوز أن يكون الرد مجرد إهدار هذا الشرط.
والمسألة تناقش في رأينا بوجه آخر ذلك أنَّ الأحاديث الواردة في هذا الموضوع – وهي أكثر من حديث – لم نجد من استطاع ردَّها بطريقة علميَّة مقبولة من علماء المسلمين فلم يبق إلا البحث عن العلة وهل هي باقية أم لا؟
إذ إن هذه القضية ليست من القضايا التعبديَّة، وإنما هي من الأحكام المتعلقة بمصالح العباد، فلا بد أن تكون لها علة ظاهرة أو خفيَّة، وهذه العلة في رأينا تشير إليها نصوص بعض الأحاديث كقوله عليه السلام: “الناس تبعٌ لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم”[رواه مسلم في الإمارة (1818)، واحمد (7306)، عن أبي هريرة]. فتركيب المجتمع في ذلك العهد يجعل قريشًا في موقع الصدارة والقيادة، وهذا الحديث يشير إلى أمر واقع أكثر من أن يشير إلى أمر واجب بدليل قويٍّ (وكافرهم لكافرهم) فهو ليس دعوة لكفار العرب من غير قريش أن يتَّبعوا قريشًا، وإنما هو تصوير لواقع العرب في تبعيَّتهم لقريش وانقيادهم لرياستها، يضاف إلى ذلك أنَّ السابقين الأوَّلين كانوا من قريش، وأنهم الذين رافقوا الدعوة ففهموها أعمق الفهم، وتجاوبوا معها وتحمَّسوا لها على بصيرة ووعي ، وإذا كانت تلك هي العلة – وهذا رأي اجتهادي معرَّض للبحث والنقد – فإنَّ
هذه العلة في عصرنا الحديث لم تعد متَّصلة بقريش على الخصوص، ولا منحصرة فيها، ولم يعد لقريش رابطة تجمعها وتفرَّقت في شتَّى البلاد، ولم تبق لها تلك القوة الاجتماعيَّة ، ولا تلك الخصوصيَّة بالنسبة إلى الإسلام، فقد توجد اليوم فيهم وفي غيرهم، وهكذا انفكت العلة عن معلولها، وعاد الأمر أنفًا، ولابن خلدون في مقدمته تعليل يشبه هذا التعليل.
وأخيرًا: وما دام الأمر محاولة اجتهاديَّة في تطبيق مبادئ الإسلام في مجال الحكم وإقامة الدولة، أقول: أليس لنا أن نتساءل ونفكر طويلًا في نتائج ما ارتآه الدكتور العربي من جعل الشورى مشاعة بين أفراد الشعب، وإلحاحه على الانتخاب العام والاستفتاء العام أليس في ذلك إهمالٌ لموقع أهل الحلِّ والعقد وأهل الفكر والاختصاص؟ أو ليس الاعتماد على الجمهور والشعب، وعلى الاستفتاءات العامة وسيلة قد يساء استعمالها من الحاكمين لأخذ المبادرة وجعل المفكرين والعلماء وأرباب الاختصاص و (أولي الأحلام والنُّهى) على حد التعبير النبوي رقمًا مهملًا أو أرقامًا تتساوى مع عامَّة الناس ممَّن ليس لهم رأيٌ سديد، ولا معرفة صحيحة أو خبرة أو دراية.
أنا لا أقول بإهمال الجمهور، ففي نصوص الشريعة واتجاهات السلف ما يجعل لهم موقعًا ومكانًا كحقِّ النقد والمجاهَرة بالحق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبايعة العامة للإمام، لكن أستاذنا الكبير يميل إلى إعطاء القيمة الكبرى لجمهور الشعب حتى في التشريع وهو مسألة اختصاصيَّة، وعلى كلٍّ فالمسألة اجتهاديَّة وهو صاحب الفضل في طرحها على بساط البحث لتلمُّس الطريقة المثلى في تطبيق مبادئ الإسلام.
وليس لي وأنا أختم هذه الكلمة إلا أن أدعو الله تعالى أن يجزيَ هذا الباحث العظيم خير الجزاء وأحسنَه على ما قدَّم للإسلام وللعلم من خدمة عظيمة في هذه الدراسات، وأشكر جامعة أم درمان الإسلاميَّة التي أتاحت هذه الفرصة الثمينة لاستخراج ما عند الدكتور العربي من نتاج في ميدان الفكر السياسي الإسلامي ليُقَدِّم للأجيال الناشئة، ولقادة الشعوب الإسلاميَّة، وللباحثين في النظم السياسيَّة في معاهد العلم ومراكز البحث والدراسات الجامعيَّة نتاج هذه التجربة الطويلة والخبرة الواسعة؛ ليستفيدوا منها في سعيهِم نحو بعثِ الحضارة الإنسانيَّة المثلى التي رسم الإسلام معالمها هُدىً ورحمةً للعالمين.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)