مقالاتمقالات مختارة

تقاطعات العلمانية والصهيونية

بقلم ياسين إعمران

مما صرت ألاحظه في كتابات بعض الشباب العربي الذي يتبنّى الرؤية العلمانية اعترافا أو شبه اعتراف بالكيان الصهيوني، تحت ذريعة أنه دولة متفوقة على جميع الأصعدة، وأن عدم اعترافنا لا يغيّر من حقيقة واقع كونه دولة يعترف بها العالم الغربي، ويتعامل معها بنديّة، والحقيقة أن آليات العلمنة تضع لصاحبها نسقا يرى الوجود من خلاله، وهي تُخضعه للموضوع، كما يُقال بلغة الفلسفة، من حيث يعتبر أنه محور ذاته، فهم يتوهّمون أنهم بذلك يكونون قد تمرّدوا عن الرؤية التي ورثوها عن آبائهم من رفض اعتراف بهذا الكيان الغاصب، لكنهم يقعون أسرى لتصوّر ماديّ بحت للوجود.
وبالمناسبة، فإن تعريف العلمانية بأنها فصل للدين عن الدولة أو فصل للمؤسسة الدينية (الكنيسة) عن الدولة، كما جاء في تعريفها الأصلي (Separation of church and state)، يقول عنه الدكتور عبد الوهاب المسيري (رحمه الله) إنه تعريف قاصر غير متّفق عليه للعلمانية، فقد عرفت هذه الأخيرة تراكمات معرفية كبيرة، خصوصا منذ ستينيات القرن المنصرم، جعلت من هذا المفهوم -أي العلمانية- مُبهما وليس له تعريف واضح المعالم. إن التعريف المذكور يطلق عليه المسيري لفظ العلمانية الجزئية، وقد عرفتها كل المجتمعات بما فيها المجتمع الإسلامي الأوّل حيث كان هناك نوع من الفصل المؤسسي بين المؤسسة الدينية والشؤون الفنّية التقنية في الدولة، ففي حديث تأبير النخل قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، يُقرّر بذلك (عليه الصلاة والسلام) تمايزا مؤسسيا بين القطاع الزراعي والمؤسسة الدينية التي تتمثّل في النبي، ولكن هذا التمايز تقنيّ بحت ، فهو متروك لمعرفة الإنسان العلمية والدنيوية.
سيكون الحقّ من نصيب المتغلّب صاحب القوة في حال عزلنا القيم والمرجعية النهائية للسلوك الإنساني في المفهوم العلماني، ومن هنا جاءت فكرة “الإنسان الأعلى” عند نيتشه

وفي الجانب العسكري جاء حديث الحباب بن المنذر بن الجموح في غزوة بدر الكبرى، حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من بدر، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل .. أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال (عليه الصلاة والسلام): “بل هو الرأي والحرب والمكيدة “، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوّر ماءه من القُلب، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله (عليه الصلاة والسلام): “لقد أشرت بالرأي”.

وهذا الأثر النبوي العظيم يمثّل الفصل الواضح بين ما هو غير محلّ جدال وحوار وهو الوحي، وبين الحرب والمكيدة والتي هي آليات عسكرية وحربية وفنّية تخضع لإدراك ملابسات اللحظة، فهناك تمايز بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية، وهكذا في جميع الأمور والمسائل الفنّية، حيث لا رأي إلا لأهل العلم والخبراء بكل فنّ، فلا رأي لرجال الدين في مسائل التجهيزات العسكرية، والتقسيمات الإدارية والقانونية والإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني أو البيروقراطي، وغيرها من شؤون الدولة التقنية.
لكن اصطلاح العلمانية الشاملة الذي أطلقه الدكتور عبد الوهاب المسيري يعطيه تعريفا بكونه فصلا للقيم الإنسانية والدينية والأخلاقية، لا عن الدولة فحسب بل عن الطبيعة وحياة الإنسان برمّتها في جانبيها الخاصّ والعامّ، وهذا المعنى الذي ينبغي أن يتبادر إلى أذهاننا إذا سمعنا مصطلح العلمانية، لأن التعريف الأول هو اختزال كبير ومخلّ بهذا المفهوم، دعونا الآن نعود إلى فكرة الاعتراف بالكيان الصهيوني وكيف تدفع إليه العلمنة، كون ذلك نتاج فصل القيم الأخلاقية عن رؤيتنا لما حولنا، وهنا يُطرح سؤال مرجعية السلوك الإنساني، هل هي مرجعية متجاوزة لطبيعة الإنسان (الدين ، الإله) أم هي مرجعية كامنة فيه؟!
سيكون الحقّ من نصيب المتغلّب صاحب القوة في حال عزلنا القيم والمرجعية النهائية للسلوك الإنساني في المفهوم العلماني، ومن هنا جاءت فكرة “الإنسان الأعلى” عند نيتشه، وكان يرى أن الأخلاق إنما جُعلت للضعفاء وأن كل فضيلة في القوة وكل رذيلة في الضّعف، ولقد رأينا تجلّيات هذه اللحظة في النازية والفاشية التي كانت ترى كل البشر دونها، والغطرسة الأميركية في العالم التي جعلت من إرادتها حقّا مُطلقا لتعيث في الأرض فسادا، وفي كلّ أشكال الاستعمار الغربي الإجرامي في بلداننا، الذي كرّس فكرة الإنسان الأعلى الغربي ودونية الإنسان العالمثالثي أو الأهليّ، دون أن نُغفل الجرائم والمذابح والإبادات التي قام بها الصهاينة في فلسطين المحتلّة، والتي تعكس نفس المرجعية النتشوية.
مؤسس الحركة الصهيونية “تيودور هرتزل” (مواقع التواصل)
ولعلّ أبرز اسم فلسفي كرّس الرؤية النتشوية في تنظيره الروحي للصهيونية كان أحاد هعام، ومن المتأثّرين بالفكر النتشوي كان مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل وألفريد نوسيج وماكس نوردو، وكلهم ذوو ثقافة ألمانية، كما تأثر بالنتشوية مفكرون صهاينة آخرون مثل: ميخا بيرديفشكي، حاييم برنر، شاؤول تشرنحوفسكي وغيرهم، ويقول أستاذنا الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) : “إن البُعد النتشوي في الفكر الصهيوني بُعد أساسي”، حيث إن نيتشه الذي دعا إلى نبذ العقائد والأديان واعتبرها أخلاق الضعفاء، دعا كذلك إلى أن يعود الإنسان إلى حالة الحيوية الطبيعية، أن يكون كالحيوان المفترس الأشقر، فإن الصهيونية آيديولوجية أرادت تجميع يهود الشتات المترهّلين الذي يؤمنون بأخلاق الضعفاء وحوّلتهم إلى وحوش مفترسين، يحسمون كل القضايا بالقوة ويفرضون رؤيتهم.
إنّ مرجعية الإنسان الأقوى أو الأعلى أو “السوبرمان” هي ذاته وإرادته هي الحقّ، ولكنه هو في حد ذاته خاضع لقوانين عامة لا إنسانية تجعل منه وسيلة لا غاية، ولكننا حين نقول إن هناك إنسانا أعلى لابد أن هناك إنسانا أقل أو أسفل منه يدوس عليه ليصعد، أولئك هم “العرب” في صورة الصراع العربي الإسرائيلي، فالنتشوية للصهاينة والبراغماتية للعرب، كما يقول أستاذنا الكبير الراحل عبد الوهاب المسيري (يرحمه الله)، فهؤلاء العلمانيون الذين يريدون أو يعترفوا بإسرائيل هم في الواقع يتعاملون من منطلق الإنسان الأدنى الذي يدوسه الإنسان الأعلى، فيُحاول أن يتكيّف مع الوضع القائم لا إعادته إلى ما كان عليه وإصلاحه!
 الإنسان المتكيّف هو عنوان الفلسفة البراغماتية، حيث يحاول الاستفادة من كل الأوضاع، ذلك هو تماما حال أولئك الذين يقولون إن إسرائيل دولة معترف بها دوننا، وأنه علينا أن نتعامل مع الواقع ونعترف به كما هو! العلماني العربي هو إنسان براغماتي لا مرجعية أخلاقية له، ولا كيان ولا هوية، بل همه التكيّف مع كل الأوضاع المفروضة عليه من الغرب الاستعماري الإمبريالي، حتى السينما الغربية حاولت دائما أن تصنع فكرة الإنسان الذي يكون مرجعية ذاته، والذي ينال ما يريد بحيلته وقوته دونما مرجع أخلاقي مُتجاوز، وكل هذا يُساهم في ترسيخ نموذج العلمنة الكامنة في الإنسان باستئصاله عن أية مرجعية أخلاقية نهائية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى