تعليق على المواقف المتباينة من حزب الله:
بقلم: د. ياسر محمد القادري (خاص بالمنتدى)
أَحْدثَ الموقفُ من اغتيال الاحتلال الإسرائيلي لقادة حزب الله اللبناني مؤخراً خلافاً كبيراً في أوساط النخب والشعوب العربية، وما يزال الخلاف محتدماً بصورة مؤسفة، حتى شُحنت النفوس واشتدّ الاستقطاب بين موقفين حادّين، والخشيةُ من استمرار هذه الحال مع تدحرج الأحداث أن يتّسعَ الخرق على الراقع فيصعب رتقه.
وفي مثل هذه الأجواء فإنني أعظ نفسي وإخواني قبل كل شيء بالتوجيه الرباني: ﴿وَقُل لِّعِبَادِی یَقُولُوا۟ ٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ یَنزَغُ بَیۡنَهُمۡۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَـٰنِ عَدُوࣰّا مُّبِینࣰا﴾، فإذا كانت لديك كلمتان فقُل الأحسن منهما، لأنها أقربُ إلى الكلمة الطيبة وأدعى لنبذ الفرقة والشقاق، وأحرى للحفاظ على وحدة الأمة وأخوّة المؤمنين، فعندما تهدأ العاصفة سيندم كثيرون عن قولٍ تسرعوا فيه، أو اتهامٍ اجترحوه كانوا في غنى عنه.
وهذه مقاربةٌ أحاولُ فيها تقريبَ ما ابتعد وترميمَ ما انصدع، وأجتهدُ أن أقول الأحسن في بيان الموقف الشرعي والأخلاقي، لا سيما مع تعقيد المشهد الذي يحتاج إلى تفكيكٍ متأنٍ وإلى قولٍ متوازنٍ، قد لا يرضي الكثيرين ممن يفضّلون المواقف الحادة على اللين بأيدي إخوانهم وتفهّم مواقفهم.
أقول: يجوزُ للشعب السوري وغيره -ولا إنكار عليه- أن يفرحَ بهلاك الظالم السفاح الذي كان أكبرَ مساندي طاغية الشام، وكان له النصيب الأوفر في تدمير سوريا، وقتل وتغييب نحو مليون بريء، وتهجير أربعة عشر مليوناً من أهلها، وكان مشروعه مشابهاً إلى حد كبير مع ما فعله الصهاينة في الأرض المحتلة عام 48 من إحلالٍ استيطاني وتغييرٍ ديموغرافي، بل كان المشروعان الإيراني والإسرائيلي متفقَين في القضاء على ثورات شعوب المنطقة وحرمانهم حريتهم منذ 2011 وحتى اليوم، فهل نطالب شعباً دعا وقنت على نصر الله أن ينتقم الله منه ويأخذَه أخذ عزيز مقتدر اثنتي عشرة سنة، هل نطالبه أن يحزنَ أو يخفيَ فرحَه حين استجاب الله دعاءه؟! هذا حقُّه، وهو من سلامة فطرته.
وأسألكم بالله يا أهلَ غزة الأحرار؛ أن تفهموا فرح السوريين في هذا السياق، وليس في سياق خذلانكم، أو الاستخفاف بمعاناتكم، أو الفرح لنصرٍ حققه عدوُّ الأمة على من ترون أنه ساندكم ونصركم. ولا تلتفتوا لبعض دعاة الفتنة ممن يستفزكم بأقواله وأفعاله فهو لا يعبر عن أصالة الشعب السوري الحر، وتفانيه في نصرة القضية الفلسطينية المباركة، وأنتم تشهدون..
وأنت أيها الأخ السوري واليمني والعراقي احذر ثم احذر..
احذر أن يتطور فرحُك لتستهينَ بتخوّف إخوانك في غزة، أو أن تجريَ المقارنات السطحية لتستخفَّ بمعاناتهم، فدماؤك ودماؤهم في القداسة والحرمة واحدة، أو أن تشكر ظالمَ إخوانك على قتلهِ ظالمك.. وإلا خسرت عدالةَ قضيتك ونقاءَ ثورتك.
واحذر أن تشمت بجملةِ من يُقتل على يد الصهاينة المعتدين، من النساء والأطفال وعموم المدنيين في لبنان، فهؤلاء لا يؤخذون بذنب غيرهم ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى. بل اعلم أن صواريخ الاحتلال اليوم لا تميز بين السنة والشيعة في لبنان.
ثم احذر أن تطالبَ كلَّ الأمة أن تشعر بفرحك وتشاطرك شعورك، فلكلِّ ساحةٍ من الظروف المركّبة ما يجعلها تتفاوت في تقدير مآلات الموقف ومستقبل المعركة، فتتفاوت في مشاعرها. وقدرُنا في هذا الزمان الصعب أن نعيش هذه المتناقضات وأن يكون لكل شعبٍ خصوصيةٌ في أبعاد قضيته.
في المقابل؛ يجوزُ لأهل غزة -ولا إنكار عليهم- أن يحزنوا للقضاء على حزب الله في هذا التوقيت، وأن يكمدوا من انتشاء نتنياهو واستعادته لتأييد اليهود واستمرار مساندة الغرب له، وبالتالي تجدد معاناة الغزيين، وأن يخشوا من تأمين جيش الاحتلال لجبهة الشمال التي كانت تشاغله -بنسبٍ قد تختلف تقديراتها لكن لا يُنكر أصلها- ليفرّغ قوته العسكرية للتنكيل بأهل غزة وإرهاق مجاهديها. فهل نطالبهم بالفرح لموت من ناصرهم وبعدم الحزن لفقد نصير قد شاغل عدوهم؟! هذا حقّهم وهو من سلامة فطرتهم.
وأسألكم بالله يا أهل الشام واليمن والعراق أن تفهموا خوف الفلسطيني في هذا السياق، وليس في سياق استهانته بدمائكم، أو التقليل من أهمية قضيتكم، أو موالاة الشيعة إيمانياً وترك موالاتكم. ولا تلتفتوا لبعض دعاة الفتنة ممن يستفزكم بأقواله وأفعاله، فهو لا يعبر عن أصالة ووعي الشعب الفلسطيني ولا عن أهل غزة الكرام، ونصرتِهم لثوراتكم العظيمة وقضاياكم العادلة، وأنتم تشهدون..
وأنت أيها الأخ الفلسطيني حذار ثم حذار..
حذار أن يتحول تخوّفك من ضعف جبهة مشاغلة العدو الصهيوني إلى تخوينِ مَن فَرِح من إخوانك الذين ظلمهم وسفك دماءهم حزبُ الله، واتهامٍ لهم بالتصهين ونحوه، أو إلى استهزاءٍ بآلامهم وثورتهم، أو إلى المفاضلة بين قضيتك وقضيتهم ومعاناتك ومعاناتهم؛ فدماء المسلمين متكافئة.
وحذار أن تصبح الحاجة السياسية التي ألجأت للتحالف مع إيران وحزب الله ولاءً إيمانياً. وتذكَّر أن تحالف مجاهدي فلسطين مع إيران وأذرعها كان من باب السياسة الشرعية، والفقهُ متَّسعٌ لتقدير المصالح وعقد التحالفات والضرورات تبيح المحظورات، لكن اضطرار المجاهدين لبعض التحالفات والمواقف كاضطرار من قارَبَ الهلاك فأكل لحم الميتة، فلا تعتبرها من أطايب الطعام وتسهب في ذكر منافعها والدفاع عن فوائدها، بل الضرورةُ تقدَّر بقدرها وما جاوز حدَّ الضرورة فهو تعدٍ وافتئات.
وحذار أن تنشغل بتبرئة ساحة إيران وحزب الله من جرائمهم بحق أهل السنة أو انحرافهم عقدياً ونيلهم من عقيدة أهل السنة ورموزهم، من خلال تبرير مواقفهم أو تأويل تصريحاتهم أو نحو ذلك.. لا تنتقل من مربع تبرير التحالف والفرح بمشاغلتهم لعدونا الصهيوني إلى مربع دفع الشبه عنهم وتبرير المواقف وكأننا في مشروع واحد معهم.
ثم حذار أن تسطّح الموقف؛ فتأتيَ بالتأصيل المتعلق بالعلاقة مع المبتدعة من الروافض وغيرهم، متجاهلاً أن المسألة متعلقة بالموقف من الظالم القاتل الصائل قبل أن تكون من الرافضي المبتدع.
ومع تقرير حقِّ كلا الطرفين في الفرح أو الحزن بحسب الاعتبارات السابقة، فإنه لا يجوز بحالٍ أن يصاحب هذه المشاعر من الأقوال أو الأفعال ما يوقع صاحبه في المحظورات الشرعية كموالاة غير المؤمنين، أو إطلاق التخوينات وتعميم الأحكام.. وليكن الإنكار على المخالف دون تعميم خطئه على شعبٍ كاملٍ فتلك دعوى جاهلية منتنة وتركها واجب، وإذا ما وجدْتَ اختياراتٍ فقهيةً لبعض أهل العلم من الطرفين فاحملها على الاجتهاد في بيان الحق؛ أخطأ في فتواه أو أصاب، ولا تتجاوز ذلك إلى الاتهامات المفتوحة، وليتلطَّف أصحاب المنابر -إذا بيّنوا آراءهم بحرية- في تقرير أحكامهم واختيار ألفاظهم، وليتجنبوا ما يعزز الشقاق ويوغر النفوس.
وأخيراً؛ فكلا الطرفين مطالبٌ بحق الأخوة الإيمانية باستيعاب المشهد العام، مع حقه بالاختلاف في مساحة الشعور بين فرح وحزن وفي مساحة الاجتهاد بين خطأ وصواب. وإذا طولب أهلُ الشام والعراق واليمن أن يتفهموا اضطرار مجاهدي غزة -لغياب المشروع السني الذي ينصرهم- للتحالف مع إيران التي ظلمت وجارت، وأن يتفهموا حزنَ أهلِ غزة على انهيار حزب الله وتخوّفَهم من تفرّد العدو بهم، فإنَّ أهلَ غزة وغيرهم في المقابل مطالبون بتفهم فرح المظلومين لإهلاك الله لظالمهم ومحتل ديارهم.. وكلا الطرفين مطالب كذلك بتجاوز مساحة التعاتب إلى ميدان التغافر، لندرك جميعنا أن العدو قد رمانا عن قوسٍ واحدةٍ، وأن معاركنا القادمة معركةُ أمةٍ واحدةٍ في ساحات متعددة وليس كما كانت معاركَ محليةً يخوضُها كلُّ شعب بمنأى عن الشعوب الأخرى، وأنه لا ينفعنا اليوم إلا وحدة الصف ونبذ الفرقة والشقاق.. فلتتسع صدورنا لبعضنا، ولتتسع آفاقنا في قراءة المعركة ومآلاتها المتوقعة في ضوء تجاربنا السابقة وتاريخنا الذاخر بالعبر والعظات، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ياسر القادري
٢ تشرين الأول ٢٠٢٤ ميلادية
٢٩ ربيع الأول ١٤٤٦ هجرية
https://t.me/abomohamadalfateh/112