مقالاتمقالات مختارة

تصادم القيم وقضية وعي التاريخ

بقلم عبدالله العليان

لا شك أن التحولات الفكرية في عالم اليوم، أصبحت أمراً واقعاً بسبب التغيرات والصراعات، لأسباب سياسية وفكرية واجتماعية الخ: والتاريخ الماضي يخبرنا أن هذا التحول من السنن الكونية، التي يجب دراستها جيداُ، والبحث عن أسباب بعض التحولات السياسية والحضارية، التي يصاحبها حروب وصراعات،ولذلك فإن صراع القيم، مسألة حاضرة في كل هذه الصراعات التي تظهر الحقب التاريخية.. في كتابه الصادر حديثاً (صدام القيم..قراءة ما بعد التحولات الحضارية)، يرى الباحث د/‏‏ مسفر القحطاني: إن الحضارات ذهنيات جماعية، تملى المواقف وتوجه الخيارات وتعمق الأفكار الما قبلية وتغير وجهة حركات المجتمع،وهى أمر حضاري بأتم معنى الكلمة،أي إنها لها جملاً متوارثة تتناقله الأجيال، كعدوى كبيرة تتناقلها مجتمعات وتؤمن بها من دون اكتراث بالضغوط والمصالح السياسية، في هذه الحالة من التواصل القيمي والثقافي العابر للحدود يعني- كما يقول الباحث القحطاني- أن المتغيرات الحضارية تسري كالحرارة في جسد المجتمعات، وبالتالي قد تشعر بانسياب جديد لمفاهيم تهز أماكن القوة بصمت ونعومة، وتكون لتلك القيم أحياناً بنى سيكولوجية على حد تعبير المؤرخ الفرنسي ألفونس دوبران، تلهب الحماسة والإلهام العاطفي في نفوس المؤمنين بها بغض النظر عن مستوى القناعة بها، ومن هنا نشعر بأن الذهنيات الجماعية (ثقافات عادات، معتقدات) لأي حضارة هى الهوية والمرجعية والانتماء الذي لا ينفك عنه الإنسان، والتحول عنه بطيء جداً، ويصعب في حالة انسجام المجتمع مع لك الموروثات أن يتنازل عنه تحت أي تهديد كان، فسكان آسيا الوسطى بعد الثورة البلشفية في عام 1917 اُجبروا على ترك كل موروث ثقافي حضاري لهم بآلات قمع ريبة ومع ذلك عادوا كما كانوا بعد مرور أكثر من سبعين عاماًن دون أن تنقض تلك الموروثات أو يتحلل انتماؤهم إليها.
فالمبادئ والقيم الحضارية ـ كما يرى المؤلف ـ تمثل هوية المجتمعات التي لا يمكن لقوة أن تجبرهم على التخلي عنها، لكن ماذا لو حدث ضعفٌ في الإيمان بها، وتخلّلها الشك والتفكيك الفلسفي، وبدأت المظاهر الخارجية في العادات والأساليب تتغير وتغري بالتحول الضمني عن تلك المبادئ والقيم، حينها يظهر ((الإله الخفي)) كما سمّاه المفكر والناقد الفرنسي «لوسيان غولدمان» ويقصد به حاملي راية الحضارة عندما يتغيرون ويرفعون رايات أخرى، فإن الحضارة كما قال: تتغير وتتحرك بدورها، أي إن فكرة الرؤية التي يعبّر عنها غولدمان في هذا السياق بالتحديد كانت التعبير النفساني عن العلاقة بين بعض المجموعات الإنسانية ووسطها الاجتماعي والطبيعي، وإن هناك تأثيراً متبادلاً ينتج الوعي والدافعية لعلاقة منتجة من التغيير الاجتماعي، وبالتالي التحوّل إلى نموذج حضاري آخر ومختلف. وفي التاريخ الإنساني هناك: كما يشير المؤلف،شواهد تؤكد هذه الفكرة من حيث الوقوع، فالقرن التاسع عشر الميلادي كان له دور كبير على حضارات عالمية كبرى، فمن خلال ثورة الصناعية وقوتها وجبروتها الأخّاذ جعل الكثير من المجتمعات تتهافت نحو الحصول عليها كأدوات مجردة، لكن كان في أوروبا وقتها مع ثورتها الصناعية ثورة علمية وفلسفية أخرى انتقلت مع المنتج الصناعي في حزمة واحدة، وكانت قادرة على تغير الأنماط الهشّة من المبادئ والقيم الحضارية في بعض المجتمعات البشرية. وأنقل كلاماً للمفكر الفرنسي «جوستاف لوبون» عن دور المبادئ في صناعة التحولات الحضارية الكبرى: ((وليست كثرة المبادئ وجدّتها هما اللتان تقفان النظر عند البحث في تطور الأمم، بل الذي يقف النظر هو قلة المبادئ المتناهية وبطء تحولاتها والسيطرة التي تزاولها. وتنشأ الحضارات من بعض المبادئ الأساسية، وإذا ما أقبلت هذه المبادئ على التحول غدت الحضارات مقضياً عليها بالتحول. إذاً، ترى أن الذي يقود العالم هو المبادئ، ومن ثم أولئك الذين يتقمّصونها وينشرونها. والنصر يُكتب لتلك المبادئ عندما تجد من المهووسين والمؤمنين من يُصغون إليها، ولا كبيرَ أهمية في أن تكون تلك المبادئ صحيحة أو فاسدة، فالتاريخ قد أثبت لنا أن أشد المبادئ وهماً هي التي فتنت الناس أحسن من سواها، على الدوام، فمثّلت أهم الأدوار. وباسم أكثر الأوهام خدعاً قُلب العالم وانهارت حتى الآن حضارات كان يلوح خلودها وقامت حضارات أخرى)). إن التحول الحضاري ـ كما يقول المؤلف ـ قد يكون تلفيقياً شكلياً، ويتسارع حدوثه في البيئات المقلّدة والناقلة وليس في البيئات الفاحصة والناقدة، والنقل الأعمى والنمذجة الكلية لحضارات أخرى مختلفة شكلاً ومضموناً، يجعل هذه الحضارة في مهب الريح، كما أسلفت في الفقرة السابقة، لكن هناك من قد يدّعي بقاء مضمون الهوية والثقافة، بينما الشكل والمظاهر العامة تحكم جوانب التغيير المجتمعي كلها، من اللغة إلى الثقافة إلى الإعلام إلى الاقتصاد، وهذه أكذوبة خادعة تصلح للدعاية والتجارة الزائفة، لأن ناقل حضارة غيره بلا بصيرة، قد وضع مجتمعه بقصدٍ وبشكلٍ مفكّك ومهمّش وبعيداً عن جذوره في وعاء حضاري أكبر منه ومختلف عنه؛ وغالباً ما يذوب فيه المجتمع الصغير وينغمر.كما أن هناك إشكالاً على المستوى الفردي وردة فعلهم من تلك التحولات، حيث تأتي في كثير من الأحيان أسبق من وعي الناس بها، فينتج عن مجال التأثير من هذا التحول فئتان في المجتمع: فئة الهامشية التي تروقها هذه الأشكال والظواهر وغالباُ ما تذوب بسرعة في ذاك المعطى الحضاري الجديد الفاتن، والفئة الأخرى التي لم تتواكب مع قبول هذه السرعة من التغيير المجتمعي فتعمد إلى الانكفاء أو المواجهة أو الهجرة، لأجل البعد عن واقع التحول الجديد .والانكفاء عن المشاركة في هذه التحولات لا يبنى عليه أثر ،لأن الزمان كفيل باندماجهم الكامل في الجديد إذا كان موقفهم الانكفائي خوفاً من الجديد دون أي شئ آخر، لكن المهم النظر يأتي ممن يحاول الوقوف ضد هذا الجديد الذي يعتبره مهدداً لثقافته ومعتقداته، وبالتالي يعيش عدم استقرار معه، وهذا هو الإنسان الطبيعي، ما لم تتحول ممانعته إلى تطرف حاد يصادم المجتمع بلا عدل أو حكمة.
وللأسف التنافس نحو النهضة العاجلة كما هو حال بعض المجتمعات الخليجية رائج ومغرٍ للبروز وحرق المراحل ، باعتماد طريقة النقل والتقليد لحضارات سابقة وعريقة من خلال نقل نماذج الأسواق والمدن وحتى الجامعات والمتاحف التي تنتقل بكليتها وثقافتها وأنماطها في الحياة وليس بهياكلها الجدرانية فقط ، وهذا ما يغيّر هوية المجتمع كله وتجعله مسخاً ملفقاً من تكوينات ثقافية وتاريخية مختلفة المصدر والمنشأ.
وابن خلدون قد أشار إلى هذا النوع من الامتنان الأعور لما عقد فصلاً في مقدمته وقال: «أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده . إن أهم التحولات الحضارية، كما يرى المؤلف، حصلت ووقعت حول الأنهار العظيمة والبحار الكبرى، فكما كانت تلك المياه سبباً للنشأة من دافع التحدي والاستجابة، كما يقرر أرنولد توينبي، حيث تحدي الطبيعة يكوّن في الإنسان الرغبة في الاستجابة بالبحث عن مقومات بقائه واستقراره، وكما قدمت حضارات المياه القوة والنهوض، أدت كذلك إلى التبادل المنفعي والطمع المصلحي أحياناً ،ما جعل الحضارات تتوالى على بلاد الرافدين وحول النهر الأصفر في الصين والنيل في مصر، وفي جوانب البحر الأبيض المتوسط وعلى حواف المحيط الهندي، واليوم تزداد الأطماع وتتطور أدوات الاستحواذ والهيمنة حول منابع النفط والغاز، وعلى ضفاف وديان التقنية والاتصالات، ما يقدّم صورة أخرى للتحولات الحضارية على غرار ما حدث في القرون الماضي، وهذا مرتهن بطبيعة الصراع حول مغانم تلك الثروات ، هل سيكون بالقوة الحديدية الصلبة أو بالقوة الحريرية الناعمة ، لكن قطعاً أنّ سُنّة الحياة والطبيعة أن يبقى الصراع فاعلاً حول تلك المغانم التي تعتبر شريان حياة المجتمعات ، كما كان فاعلاً وبقوة عند اكتشافها ، ما قد يؤدي إلى شكل من أشكال التحولات المجتمعية تقودها الحضارات القوية الغالبة، وربما يحدث ما سمي بالفوضى الصادمة، بسبب غياب ضبط هذه التحولات بالوعي بالتاريخ وتقلباته الفكرية.

(المصدر: مجلة عمان الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى