تحديد النسل بين الفتاوى الشرعية.. والجينات العسكرية
بقلم د. محمد الصغير
الخريطة الوراثية العسكرية تحمل جينات الفشل وتورّثها، ولها بصمة واضحة وثابتة لا يخلو منها عهد مع تغير الزمن واختلاف المعطيات، والمتابع لموقف الزعامات العسكرية في مصر من ملف قانون الأحوال الشخصية يلحظ ذلك بلا عناء، وكأن سد الزيادة السكانية سقط مع الملكية، وظهرت آثاره المدمرة مع بداية عهد جمهورية الضباط.
والحقيقة أن فشلهم (العسكر) في إدارة جميع الملفات، لانعدام الخبرة وعدم وجود المؤهلات، هو الذي جعلهم يعلقون فشلهم على شماعة الزيادة السكانية التي يُنظر إليها في كل البلاد المتقدمة على أنها من أهم أعمدة الأمن القومي، وفي مقدمة عوامل القوة وزيادة الإنتاج في كل المجالات، إذا توفرت الإدارة القادرة على وضع الخطط ومتابعتها حتى تحقيق النتائج. وربما لو ضربت المثال بألمانيا التي تعطي مكافأة شهرية مجزية على كل طفل، وبدون حد أقصى من دون تفرقة بين مواطن ووافد، لقيل: أين نحن من الألمان؟ لذا سأحيلك إلى تركيا التي تتشابه معنا في المساحة والموارد وعدد السكان، وتقدم نفس ما تقدمه ألمانيا، ويرى الرئيس أردوغان أن زيادة السكان مع زيادة الإنتاج والاعتماد على المنتج المحلي، هي أعمدة نهضة الأمة وسبيل وصولها إلى مصاف الدول الكبرى.
أما تحديد النسل من خلال الإعلان عن الاكتفاء بطفلين أو ثلاثة مثلا، فحرام شرعا
الإسلام لا يمنع تنظيم النسل*، بل في تعاليمه ما يكفل ذلك من خلال إكمال مدة الرضاعة الطبيعية إلى عامين، ولا حرج أن تستريح المرأة بعد ذلك سنة مثلا، ثم تأتي مدة الحمل الثاني فيكون الفارق بين الطفلين أربع سنوات وربما أكثر، ولا بأس من استخدام الوسائل التي تؤخر الحمل خلال هذه الفترة، أما تحديد النسل من خلال الإعلان عن الاكتفاء بطفلين أو ثلاثة مثلا، فحرام شرعا ويخالف نصوص الدين وثوابت الشريعة، ومحاولة بعض المفتين مجاملة رؤسائهم بإصدار فتاوى تجيز ذلك، يصادم ما استقرت عليه فتاوى العلماء الكبار الذين رحلوا دون أن يغيّروا أو يبدّلوا، وما أكدته المجامع الفقهية التي تتحرك تحت مظلة المسؤولية الشرعية بعيدا عن التوجيهات الحكومية، ومن ذلك ما صدر عن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي وجاء فيه: *”موضوع تحديد النسل، أو ما يسمى تضليلًا بـ(تنظيم النسل)، وبعد المناقشة، وتبادل الآراء في ذلك، قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية، تحض على تكثير نسل المسلمين، وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة كبرى، ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلت على أن القول بتحديد النسل، أو منع الحمل، مصادم للفطرة الإنسانية، التي فطر الله الناس عليها، وللشريعة الإسلامية، التي ارتضاها الله تعالى لعباده.
ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل، أو منع الحمل، فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين؛ لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة، والشعوب المستضعفة بصفة خاصة؛ حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد، واستعباد أهلها، والتمتع بثروات البلاد الإسلامية.
وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي، المتكون من كثرة اللبنات البشرية، وترابطها؛ لذلك كله فإن المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع: أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا”.
ومحاولة إلصاق جواز القول بتحديد النسل بالأزهر الشريف، يدحضه سبق علمائه وشيوخه إلى كلمة الفصل في تحريم وتجريم هذا الفعل، ومن ذلك:
فتوى الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية الأسبق الذي تولى منصب الإفتاء في الفترة من أول مارس/آذار 1955 حتى سنة 1964 ثم تولى بعدها مشيخة الأزهر وجاء فيها: *”إن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية إيجاد النسل وبقاء النوع الإنساني وحفظه، مشددا على عدم شرعية منع النسل أو تحديده، واستطرد -رحمه الله- في فتواه “وليس من الأعذار خوف الفقر وكثرة الأولاد أو تزايد السكان، لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بالرزق لكل كائن حي”*.
وإن شذّ بعض المحسوبين على الفتوى والأزهر تحت سطوة الوظيفة، ومراعاة مقتضيات الولاء الحكومي، فقد انبرى لهم رموز الأزهر لتقويم الانحراف ورد الحق إلى نصابه، وبلغ بالدكتور عبد الغفار عزيز أحد كبار علماء الأزهر الشريف، إلى كتابة كتاب للرد على تبني دار الإفتاء وجهة نظر النظام في تحديد النسل أسماه “تحديد النسل جريمة في حق الدين والوطن” وجعل أبرز عناوينه: لا يا فضيلة المفتي.. مفنّدًا أكذوبة تحديد النسل بين ما أطلق عليه “التضليل الإعلامي وفبركة الفتاوى”.
لفت نظري في الهجمات السابقة أن الخطاب لا يوجه إلا إلى المسلمين
وفي تقديري أن النظام العسكري يسعى في كل حقبه إلى انتقاص الإسلام من أطرافه، وتصويب مسموم سهامه إلى قضايا الأسرة تحديدا، مسايرة للهوى الصليبي والصهيوني الرامي إلى تغيير هوية المجتمع الإسلامي، وذلك طمعًا في الدعم وغض الطرف، وبدأها جمال عبد الناصر -كبيرهم الذي علمهم السحل!- بإلغاء القضاء الشرعي ونظام الوقف، ثم ارتبط العبث بقوانين الأحوال الشخصية -الذي مرده إلى الشريعة الإسلامية- بزوجات الرؤساء فيما عرف إعلاميًّا بقوانين جيهان وتعديلات سوزان، وحان الآن موعد حصة العبث الخاصة بالحقبة السيساوية.
لكن الذي لفت نظري في الهجمات السابقة أن الخطاب لا يوجه إلا إلى المسلمين، ولا ينبري لإصدار الفتاوى إلا مشايخ الدولة، وكأننا نحيا وحدنا فيها، ويخفت -عن عمد- ذكر شركاء الوطن، ولم نشاهد مشاركة أو كلمة من أحد من القساوسة في أي حملة من حملات “فاطمة عيد” وما تلاها، وكأن الزيادة مصدرها فقط “حسانين ومحمدين”!
الأمر ليس عشوائيا، وإنما خطة أن تصبح مصر شبه دولة بدت تظهر ملامحها، بداية من رهن قرارها لعواصم خليجية، والتنازل عن الحدود والموارد المائية، وسياسة حل مشاكل الفشل والسرف الحكومي بوضع اليد في جيب المواطن وإثقال كاهله، بالتوازي مع مشروع طمس الهوية والعدوان على الشرائع والشعائر الإسلامية، حيث لا تمر بضعة أسابيع إلا ويتجدد الجدل، أو يسعى النظام لجس النبض كما حدث مؤخرا في قرار حذف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من المقررات الدراسية، وحصرها في مادة الأخلاق العامة التي لا ترتبط بديانة بعينها، وصرح نائب وزير التعليم في مجلس النواب أن ما يطالب به النائب فريدي البياضي نجل القس صفوت البياضي رئيس الكنيسة الإنجيلية بخصوص هذا الحذف، هو تعليمات القيادة العليا التي ستتبناها الوزارة، ثم تضاربت تصريحاتهم بعد ذلك على إثر موجة السخط والرفض التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي !
بما يؤكد أن خلاف النظام الحالي بشتى أجنحته، ليست مع فصيل “الإسلام السياسي” أو بعض أحزابه وجماعاته، وإنما مع الإسلام عقيدة وشريعة.
(المصدر: الجزيرة مباشر)