تجديد الخطاب الدّيني: مؤامرة متجدّدة لتحريف صحيح العقيدة5 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
المعادلة الصَّعبة في تطويع مفاهيم الإسلام للحداثة: هل تحققها “ولاية الفقيه”؟
يتحدَّث عادل عبد المهدي في بداية كتابه إشكاليَّة الإسلام والحداثة (2001) عن ارتباط مفهوم الحداثة منذ انتشاره بالتمرُّد على القوالب الجامدة، والخروج عن الأُطُر المفروضة من قِبل السلطات السياسيَّة أو الدينيَّة. ويتَّفق الكاتب مع الرأي القائل بأنَّ الحداثة بدأت مع ظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحيَّة مطلع القرن السادس عشر، والتي يراها المحفِّز الأساسي لحركة التنوير في القرن السادس عشر، وللثورة الفرنسيَّة في القرن التالي. وفي نور حركة الإصلاح تلك، بدأ عصر الحداثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ليعيد النظر في كافَّة المسلَّمات، غير الخاضعة للتحليل والتدقيق. ويُشار في هذا الشأن إلى رأي الكاتب صالح هاشم في مقاله مقالة في الحداثة (1988)، حيث قال عن الحداثة “لا شيء ينجو من دراسة العلم وتحليل العلم والفن والتقنية. إنَّها تريد أن تخترق سرَّ الطبيعة، وسرَّ الكواكب البعيدة، وتفجِّر الذرَّة، وتصعد إلى القمر، وتخلق الكائنات الحيَّة لأوَّل مرَّة في المختبر. كلُّ الحاضرات البشريَّة السابقة كانت لها محرَّماتها (التابو) ما عدا حداثة الغرب. إنَّها لا تعترف بأيِّ محرَّمات” (ص292).
مرَّت الحداثة بعدَّة مراحل إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن؛ غير أنَّ شكلها الحالي تزامن مع الثورة الصناعيَّة الثالثة، المرتبطة بالتطوُّر التقني الهائل في شتَّى المجالات. ودَفَعَ التفوُّق المادي الهائل للغرب، بفضل تلك الثورة التقنيَّة، الكثيرين من أبناء العالم الإسلامي إلى المطالبة باتِّباع نهج الغرب بالكامل، والانسلاخ من الماضي؛ للتخلُّص من عوامل التخلُّف والرجعيَّة. والنتيجة، وفق رأي محرر المقدِّمة، وقوع العالم الإسلامي تحت سطوة الغرب في تبعيَّة مذلِّة؛ “فكانت أيُّ خطوة للأمام تسبقها وتواكبها وتليها بضع خطوات للوراء، حتَّى أغرقنا نمط التحديث الغربي-الذي أصرَّت عليه النخبة وحكومات الاستبداد-فيما نحن فيه اليوم، من قمع وإرهاب ومعتقلات، ومنافي، وفرار من الأوطان، وهدر للثروات، وتجهيل للمواطن، واستخفاف بحقوقه، وتنمية صوريَّة تهمَّشت فيها المقوِّمات الذاتيَّة” (ص7).
يقدِّم الكاتب في مؤلَّفه دراسة وافية للحداثة الغربيَّة، مبنيَّة على خبرة شخصيَّة امتدَّت لعقود في الغرب، حرصًا على كشف الوجه الآخر للحداثة، وتبيانًا لزيفها وخداع قيمها، التي انساق وراءها-مع أشدِّ الأسف-الملايين من أبناء المسلمين. ليس عادل عبد المهدي هو أوَّل من تناول سُبُل نهضة الأمَّة الإسلاميَّة، في ظلِّ الركود والرجعيَّة والجهل الذي تمرُّ بها، بينما تتسابق الأمم الغربيَّة في تحقيق منجزات علميَّة تحقِّق الثراء العلمي قبل المادِّي. واتَّفق المفكِّرون المسلمون على أنَّ ترقية الفكر الإنساني وتحريره من المفاهيم الخاطئة هو السبيل إلى النهضة والحضارة؛ وقد نجح المسلمون في الماضي أكثر من مرَّة، وفي ظروف وبيئات مختلفة، في تحقيق إنجازات فكريَّة أسست حضارات استمرَّت لقرون، “حضارات هي ليست الإسلام، لكن دفقها الأول ومصدر طاقتها الرئيس هو الإسلام” (ص12).
وطالما أنَّ هذا هو شأن الإسلام عند الاهتداء به، يتساءل الكاتب: “لماذا تعطَّل هذا الدور؟ والأهم: كيف يمكن إعادة الفعل والحيويَّة لهذا الدور؟” (ص13). يوضح الكاتب أنَّ الحضارة الغربيَّة سبقت الحضارات الأخرى إلى الواجهة، بل وسحقت غيرها، بفعل تطبيق الرأسماليَّة والتوسُّع الاستعماري؛ فأصبحت هي المرجعيَّة والنموذج الواجب الاقتداء به، وصارت المفرز للقيم والمفاهيم الواجب تطبيقها في سبيل تحقيق النجاح، بل ولم يعد من الممكن للأفكار الوافدة من الثقافات غير الغربيَّة الرواج والفعَّاليَّة، إلَّا إذا لاقت استحسان الغرب؛ وإلَّا كان مصيرها الإهمال، ومصير صاحبها الدحض والتنكيل، وبخاصَّة لو تناولت ما يتعارض مع قيم الغرب وهدَّدت سيطرته على العالم. أصبح المتعلِّم في غير المؤسسات العلميَّة الغربيَّة جاهلًا، واعتُبرت منجزات بلاده الثقافيَّة عديمة القيمة؛ والسبب بسيط، وهو أنَّ مفهوم النهضة لدى الغربيِّين أصبح “اللحاق بركبهم، والأخذ بأسباب حضارتهم وهياكلها وقيمتها” (ص14).
يضيف الكاتب رأيًا بالغ الأهميَّة في هذا الشأن، وهو أنَّ الغرب فرض علينا استبدال المفاهيم الإسلاميَّة، المستمدَّة من كتاب الله وسُنَّة نبيِّه الكريم، بمفاهيم “تعطِّل النظر، وتشوِّش الرؤية، وتعرقل الفكر الإسلامي، دون أن تضعنا فعلًا-حتَّى لو أردنا-على عتبة عمل الأفكار الغربيَّة” (ص15). الأدهى من فرض مفاهيم الغرب على المسلمين، كما يرى الكاتب، أنَّ الغرب لن يسمح للمسلم بتطبيق مفاهيمه في بلاده والاستفادة منها في تحسين أحواله، وإلَّا لما وصل الحال في العالم الإسلامي لما هو عليه الآن. أمَّا عن تفسير ذلك، فهو لأنَّ “أيَّ طرح لموضوع النهضة، دون وضع الظروف والشروط والهيكليَّات التي رتَّبتها الهيمنة الإمبرياليَّة والصهيونيَّة من احتلال الأرض، وغزو النفوس، وتمزيق وَحدة الأمَّة، وبناء هياكل الدول العلمانيَّة القوميَّة، بمؤسساتها التعليميَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، وسيادة نظام القيم والمعايير، بما يقود إلى دفعها نحو الدونيَّة والانحطاط، وبما يخدم منظومتهم الحضاريَّة؛ لتبقى يدهم هي العليا ويدنا هي السفلى” (ص15).
يتحدَّث الغرب دائمًا عن ضرورة تحرير العقل والروح من القيود التي تفرضها عقيدة الإسلام الصحيحة-وفق الكتاب والسُّنَّة، والتي اعتبرها الكاتب خالد محمَّد خالد “كهانة” في بعض صورها المستغلِّة للدين في تحقيق مطامع شخصيَّة-بينما يرى عادل عبد المهدي أنَّ التحرير لا ينبغي أن يكون للعقل ولا للروح، إنَّما للأرض وللبشر من سيطرة قوى الاستعمار في شكليها، القديم القائم على الاحتلال بالترهيب تحت تهديد السلاح، والجديد المعتمد على الغزو الفكري بالترغيب تحت إغراء المنافع الماديَّة. ويعتبر الكاتب أنَّ أيَّ طرح لمسألة النهضة بدون “تحرير النفوس والأرض” عبارة عن “حرث في بحر” (ص15). ويُعزي الكاتب فشل كافَّة محاولات العالم الثالث للنهوض، ليس إلى الشحُّ في الإنفاق، أو إلى الامتناع عن بذل التضحيات، أو إلى تقاعُس الناس عن اعتناق المنهج العلمي السليم، أو إلى هيمنة الحكَّام على السلطة من خلال المؤامرات والانقلابات، إنَّما يُرجعها الكاتب في المقام الأوَّل إلى قيامها على أساس “قاعدة فكريَّة ووعي مزيَّف خلاصتهما اللحاق بركب الدول المتقدِّمة، أو طلب مساعدتها، أو اقتباس تجربتها” (ص17).
لا يستبعد الكاتب إطلاقًا إمكانيَّة التحرُّر من قيود الغرب الماديَّة والمعنويَّة، ولكن يجد في ذلك صعوبةً، ويرى أنَّ المسألة مسألة “نضج ووعي” لم يبدأ العمل على تزكيتهما؛ على ذلك، فالإصلاح لا بدَّ وأن يبدأ من داخل نفوس الشعوب الواقعة تحت وطأة الاستعمار بكلِّ أشكاله وصوره، أضف إلى ذلك “كل العوامل الإيجابيَّة الداخليَّة والخارجيَّة المساعدة، بما في ذلك استثمار الثغرات المساعدة لنا في الهيكليَّة العامَّة للحاضرة الغربيَّة”، اهتداءً بوقله تعالى في الآية 140 من سورة آل عمران “إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” (ص18). وتستحيل تلك المهمَّة “مل لم يحشد لها الإسلام المسؤول الملتزم الموحِّد كلَّ ذخيرته في جهد دؤوب؛ لتعبئة طاقات الأمَّة، ومدِّها بالغذاء الروحي اللازم لخوض هذه المعركة الشرسة” (ص18). ويضيف عبد المهدي “والحضارة الغربيَّة المنتشية اليوم لا تُدرك أنَّها تسير إلى المصير ذاته (الانهيار، مثل الاتحاد السوفييتي)، وتحفر قبرها بيدها، وتسمح بدولة الأيام عليها، كلَّما أوغلت في تدمير المقدَّس الحقيقي والوحيد، لتقدِّس الآلة والتطوُّر…مدمِّرة بذلك مجزات عظيمة يمكنها أنتكون إنجازًا بشريًّا رائعًا يخضع لملكوت الإنسان-خليفة الله على الأرض-بعد خضوعه لملكوت الله تعالى” (ص20). أمَّا عن سُبُل الخروج من هذا الوضع، فيأتي على رأسها الحفاظ على ما بقي من تراث الأمَّة المسلمة لم تنل منه أيادي العبث، وإن كانت قد طالته، وفي مقدِّمة ذلك “قرآننا المحفوظ وسُنَّة نبيِّنا” (ص21). ويأتي بعد ذلك تحجيم الآثار التدميريَّة لخضوع مؤسسات رسميَّة لسُلطة كلِّ أعوان الاستعمار في بلاد المسلمين على ثوابت الدين والقيم الأصيلة المستمدَّة من صحيح الدين. تضافُر الجهود واجتماع الخبرات والاتفاق على هدف واحد، و، قبل ذلك كلِّه، نشر الوعي السليم، من أهم متطلِّبات “المعركة الشرسة”، الساعية إلى سحق موروثات الأمَّة المسلمة؛ لأنَّ انعدام الوعي وترفُّع البعض عن التعاون مع غيره بما لديه من طاقة سيفتح الثغرات أمام العدو للنيل منَّا (ص21).
لا ينكر عبد المهدي أنَّ الإسلام-بالطبع متمثِّلًا في معتنقيه، وليس في نصوصه أو عقيدته-تتقدَّم عليه الحضارة الغربيَّة، لكنَّه لا يتَّفق أبدًا مع الرأي الزاعم بأنَّ الإنسان المستنير الواعي الناجح-بالطبع وفق معايير الغرب-هو نتاج الحضارة الغربيَّة وصنيعتها. يسبق الإنسان التقنية الحديثة، وفق القرآن الكريم؛ لأنَّ الله تعالى خلَق الإنسان، وعلَّمه، وأرشده، لكنَّه اختار الانقياد وراء شهوة عابرة، فنسي عهد الله له بالخلافة على الأرض، فانحدر من الجنَّة-حيث كانت كافَّة احتياجاته متوفِّرة، استنادًا إلى قوله تعالى في سورة طه “إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)”-إلى الأرض. غير أنَّ الإنسان لم يبقَ جامدًا، بل عمَّر وطوَّر وأنتج، ولم يقضِ على الأمم من البشر أو يستأصل شأفتهم سوى نسيان عهد الله إلى البشر، وهو الإيمان بالله وعدم الإشراك في عبادته أحدًا. أمَّا الفكر الغربي، فهو يرى الإنسان “نتاج التطوُّر الطبيعي (دارون)، أو الفكرة المطلقة (هيجل)، أو نظام العقد الاجتماعي (روسو)، أو المعاناة الفكريَّة (ديكارت)، أو نظام العمل (انجلز/ماركس)” (ص19).
يتناول الكاتب بالنقد أعمال المفكِّر السوري الفرنسي برهان غليون فيما يتعلَّق بموقف الإسلام من مفاهيم الحداثة والحريَّة والديموقراطيَّة، التي تراها الغرب لا تتوافق مع الإسلام، وتعتبر المشروع الإسلامي النهضوي محكومًا عليه بالفشل بسبب عجزه عن تطبيقها. يعبِّر غليون عن خشيته من وصول تيار الإسلام السياسي إلى سُدَّة الحُكم، بعد فشل التيار الديموقراطي، الذي ينتمي هو إليه، في تحقيق اللُحمة بين أفراد المجتمع، مع اختلاف انتماءاتهم السياسيَّة. يتأسَّف غليون في كتابه الاسلام والسياسة: الحداثة المغدورة (1997) على فشل الحداثة على ثلاثة محاور أساسيَّة، هي: مأزق السياسة، ومأزق الهويَّة، ومأزق الاقتصاد. بذلك، يزعم غليون أنَّ السبب في الميل إلى تطبيق المنهج الإسلامي القويم هو فشل الحداثة، القائمة في الأساس على العلمانيَّة، في بناء نظام اجتماعي يضمُّ العالم بأسره تحت جناحه؛ والسبب في ذلك هو الاختلافات الفكريَّة والماديَّة بين الشرق والغرب، التي تشكِّل سياسات الغرب تجاه الشرق، بل وتُجبر النظم الحاكمة في العالم الإسلامي على تطبيق سياسات تزيد المشكلة تعقيدًا. ما أراده غليون هو نظام سياسي يجمع الإسلاميِّين والعلمانيِّين في منظومة موحَّدة، ويكون لكلِّ تيار قدرته على الإدلاء برأيه بدون قيود، وهذا هو شأن أيِّ نظام ديموقراطي. غير أنَّ هذا التكامل السياسي بين التيَّارات منافرة الأفكار لم يحدث، وهذا-في رأي غليون-ما سيفتح الباب أمام تيَّارات إسلاميَّة خالصة، لا تختلط أفكارها بالفكر العلماني.
يرى غليون في مقاله “إشكاليَّات الإسلام والسيَّاسة” (1997) أنَّ الحداثة صارت أمرًا واقعًا لا مهرب منه؛ فالحداثة اليوم “تعيشها المجتمعات وتُفرض علينا مثل غيرنا…إنَّنا نفكِّر دائمًا أنَّ الغرب هكذا ونحن هكذا، ولكن في الحقيقة اختُرقنا وأصبحنا حديثين…أصبحنا عبيدًا لحداثة نرفضها أيديولوجيًّا، وهي تتحكَّم بنا عمليًّا” (ص61). ويتساءل عادل عبد المهدي هنا عن الحل، فلا سبيل للتسليم بسيطرة الحداثة على حياتنا، والاعتراف بأنَّها تنظِّم حياتنا، واعتناق كلِّ مفاهيم الحداثة، برغم عدم توافقها مع قيم ديننا. من جديد، يشير عبد المهدي إلى أنَّ حتَّى هذا الاعتناق الكامل لمفاهيم الحداثة لن يضمن لنا تحقيق نهضتنا، ولو تخلِّينا عن قيم الدين؛ والسبب بسيط، وهو أنَّ هذا الخيار ليس لدينا الحريَّة للحصول عليه. ومن بين الأفكار الأخرى التي طرحها غليون في مقاله، وتكشف المزيد عن طبيعة مذهبه الفكري، مطالبته الإسلاميِّين برفع ما أطلق عليه “القداسة” عن حقيقتهم السياسيَّة الاجتماعيَّة، وهو غالبًا يقصد عدم التظاهر التقيُّد بالشريعة في شؤون الزواج والميراث والتعاملات، بينما هم في الحقيقة يطبِّقون مفاهيم الحداثة دون وعي منهم بذلك. ويضرب غليون المثل في ذلك بتبنِّي الكنيسة مفهوم “المسيح الإنسان”؛ فاكتسبت القدرة على مسايرة متطلَّبات الحداثة. هكذا، أصبحت الكنيسة “تضطلع بدور له طابع إنساني أكثر، وتتدخَّل لصالح المحرومين…لقد تبنَّت تمامًا قيم الديموقراطيَّة والإنسانيَّة، وأصبحت جزءًا من التنظيم الراهن الحديث، وبالتالي أصبحت مركزًا من مراكز الحداثة في الغرب” (غليون، 1997: ص58).
يتعرَّض عبد المهدي لمسألة اقتداء المؤسسة الدينيَّة الإسلاميَّة بالكنيسة من خلال الاعتراف بأنَّ المسيح هو تجسيد للإله على الأرض، بقوله “إنَّ الإسلام قد جعل الإنسان خليفة الله على الأرض، مانعًا عن الربوبيَّة التي تسمح ببناء مفهوم الصنميَّة والكهنوتيَّة على الأرض، مانحًا إيَّاه في ذات الوقت كلَّ القدرات والصفات والخصال التي تجعله سيِّد نفسه، متحرِّرًا من كلِّ عبوديَّة أرضيَّة إلَّا العبوديَّة لله” (ص46). ويردد غليون ما سبق وأن قاله خالد محمَّد خالد عن عدم إمكانيَّة الجمع بين السياسة والدين في حُكم الشعوب. الدين بالنسبة إلى غليون مجرَّد قيم أخلاقيَّة متوارثة من المفترض اللجوء إليها لتهذيب السلوك؛ أمَّا السياسة، فهي ألاعيب وحيل وقوانين وضعيَّة لا تخضع لقيود دينيَّة.
تأثَّر العالم الإسلامي، شاء أم أبى، بالتحوُّلات الدوليَّة قبيل نهاية القرن العشرين، وبخاصَّة انهيار الاتحاد السوفييتي، واشتداد الصراع العالمي على النفط. أصبح للعالم نظام اقتصادي واحد، هو الرأسماليَّة، التي تعتمد على المحروقات في تشغيل مصادر تحقيق الدخل ودرِّ الأرباح. أصبح النظام المتحكِّم في اقتصاد العالم يعتمد على ما ينتجه فريق من سكَّان الأرض يشكِّلون الأغلبيَّة الساحقة، في تحقيق المنفعة لفئة محدودة من أصحاب المصالح تنعم بالقسط الأكبر من الربح، وتُخضع الباقي لسُلطانها بالترغيب والترهيب. يعلِّق الكاتب بأنَّ تسمية هذا النظام بـ “النظام الدولي” لا ترجع إلى أنَّه يشمل برعايته كافَّة دول العالم، إنَّما لأنَّ “قلَّة من الدول الاستكباريَّة تجد أنَّ مصالحها وكلمتها تمتدُّ إلى مساحات العالم والكون كلِّها، فتتحدَّث بتعسُّف واستغلال بمصائر العالم…لا تعني المنظَّمات الدوليَّة أنَّها وُضعت لصالح عموم الدول، بل هي تعمل-أوَّلًا وقبل كلِّ شيء-لضمان مصالح دول وأمم معينة في عموم الساحة الدوليَّة وفي العالم والكون” (ص56).
يضع عبد المهدي يده على أهم أسباب الصراع بين العالمين، الشرقي المسلم والغربي غير المسلم، وهو رغبة العالم الغربي منذ القِدَم إخضاع العالم الشرقي المسلم تحت سيطرته، متَّخذًا في ذلك الشعار المناسب: تحرير المقدَّسات المسيحيَّة، زمن الحروب الصليبيَّة؛ وتطبيق سياسة Laissez-faire، أو عدم التدخُّل، والمعروفة بمعناها الحرفي “دعه يعمل، دعه يمر”، في القرن التاسع عشر الميلادي، في أعقاب الثورة الصناعيَّة والاكتشافات التقنيَّة. وهناك شعاراتٌ أخرى رفعها العرب لتبرير غزوه، منها “نشر الحضارة” و”محاربة الإرهاب” و”القضاء على بؤر التوتُّر” و”منع تهديد الأمن الدولي” (ص57). وفق الادِّعاءات الرنَّانة من هذا النوع، منح الغرب غزوه العالم الإسلامي الشرعيَّة، وتلك الشرعيَّة هي التي بنى عليها النظام الدولي كيانه. ويعرِّف الكاتب النظام الدولي بأنَّه “مجموع الشركات، والصناعات، والبيوتات، التي تخدم بالنتيجة ما يُسمَّى الاقتصاد العالمي، أو نمط الحياة الحديثة” (ص58). يدبُّ هذا النظام أصابعه في كافَّة مناحي الحياة، ويسيطر على جهازها العصبي، بتحكُّمه في التعليم، ووسائل الإعلام، والبنوك، مراكز البحوث، بل ومعايير الحُكم والقيم الأخلاقيَّة، وطرق العيش، لتقل “ما يُعرف بـ “الأنماط العصريَّة للحياة” (ص58).
ويردُّ الكاتب على من يدَّعي عجز الإسلام عن مواكبة مسيرة التقدُّم الغربيَّة بقوله إنَّ هذا ليس بعجز، إنَّما هو “حفظ للأمَّة البقيَّة، التي استطاعت أن تقاوم وأن تمنع الحصار من أن يستكمل عمليَّة التطويق الكامل؛ ليقضي على الأمَّة والحضارة الإسلاميَّة، كما قضى على أمم وحضارات أخرى” (ص67). ويرى الكاتب أنَّ محاولات الاحتواء التي مارسها الغرب ضدَّ العالم الإسلامي ربَّما لم تعد تُفلح، بعد انكشاف طبيعتها، وافتضاح أسبابها الحقيقيَّة، وهي القضاء على الممانعة لدى المسلمين، وترويض سلوكيَّاتهم بما يفسح المجال أمام تنفيذ خطط الغرب في دار الإسلام. وما كان من الغرب إلَّا ضاعف من استخدام أسلوب القمع، وبخاصَّة عند التعامل مع المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلاميَّة.
تمتَّع العالم الإسلامي قبل النشاط الاستعماري الغربي بحالة من الازدهار الاقتصادي، حتَّى دبَّت الفرقة التمزُّق في أركانه؛ فقد صدارته، وصار يعاني من الركود، ويتسوَّل أحيانًا المساعدة الاقتصاديَّة من الغرب، بعد أن كان الغرب يتبعه. اكتمل تفكُّك الأمَّة بانهيار آخر وَحدة جمعت المسلمين، ولو بالاسم، مع سقوط الدولة العثمانيَّة؛ وربَّما يعبِّر حال تركيا إلى اليوم عن أزمة العالم الإسلامي في مطالبته باتِّباع قيم الغرب غير المسلم، وحنينه إلى تراثه الإسلامي، الذي يشكِّل هويَّته وفيه علاج مشكلاته. وتزامَن سقوط الخلافة في إسطنبول مع زرع إسرائيل في الأرض المقدَّسة، وتزايد الضائقة الاقتصاديَّة للشعوب المسلمة. وبرغم ذلك كلِّه، يجد الكاتب أنَّ نهضة شعوب العالم الإسلامي حتميَّة، وأنَّ وسائل الغرب للسيطرة على مقدَّرات الأمَّة المسلمة ذات حدَّين، وستنقلب عليه مستقبلًا. فالانحلال الأخلاقي للغرب، انتشار المشكلات الاجتماعيَّة، وعلى رأسها التفكك الأسري، والابتعاد المتعمَّد عن ممارسة حياة دينيَّة سليمة، لن يفضي في النهاية إلا إلى “الدمار والتخلُّف والتفكُّك” (ص110).
ينتقل عبد المهدي إلى استعراض أهم الفروق بين الحكومة الدينيَّة الإسلاميَّة، والحكومة الوضعيَّة، موضحًا أنَّ الأولى تستمدُّ أصولها من دين سماوي منزَّل من عند الله، وتعمل وفق شريعة إلهيَّة منزَّهة عن الخطأ، بينما تستمد الثانية كيانها من قوانين وضعها البشر، وفق ما ارتأوا فيه المصلحة. تضع الحكومة الإسلاميَّة نُصب أعينها حقيقة مراقبة الله تعالى لصنيعها، وتعمل وفق آياته وسنَّة نبيِّه؛ أمَّا الوضعيَّة، فهي لا تؤمن إلَّا بما تراه حسيًّا، ولا يمكنها تصوُّر وجود إله لا يتجسَّد ولا يتَّخذ شكلًا مُدركًا بالحسِّ؛ ومن هنا، تصنع لنفسها وثنًا تعبده، قد يكون “فردًا معبودًا، أو حيوانًا متطوِّرًا، أو آلة متقدِّمة” (ص114).
يجد الكاتب من خلال التحليل المنصف، أنَّ الحكومة الوضعيَّة قامت على سلسلة من التناقضات، واختلال التوازنات، كما يوضح تاريخ تطوُّر النظريَّة التي قامت عليها تلك الدولة. بدأت الحكومة الوضعيَّة على أساس نظريَّة الحقِّ الإلهي، التي جعلت طاعة الحاكم من طاعة الربِّ، لكنَّها انهارت بعد انكشاف سوء استغلال الحكَّام للسلطة الدينيَّة في اتِّخاذ تدابير تخدم مصلحته هو. جاءت بعد ذلك نظريَّة العقد بين الحاكم والمحكوم، يدعو إلى أولويَّة طاعة الحاكم لتفادي الفوضى، ويعتبر المفكر الإنجليزي الماسوني توماس هوبز من أكبر مروِّجي تلك النظريَّة؛ وقد اتَّخذت هذه النظريَّة شكلًا آخر، يُعرف بـ “العقد الاجتماعي”، والذي يعبِّر عن علاقة تكامليَّة بين الحاكم والشعب، يدين الشعب بالطاعة للحاكم، باعتباره قائد الدولة، وليس بصفته الشخصيَّة. وتأتي بعد ذلك نظريَّة الدولة/الأمَّة، الناشئة عن تطوُّر المفهوم الفلسفي للحُكم، واتِّخاذ الدولة طابعًا حقوقيًّا ومؤسساتيًّا. باختصار، فالدولة الوضعيَّة تعتمد على قدرة أشخاص-سياسيِّين أو عسكريِّين-على الاستئثار بإمكانيَّة تطبيق الشرعيَّة.
أجبرت الاكتشافات العلميَّة المواكبة لعصر النهضة، فيما عُرف بالثورة الاستعرافيَّة الأولى، الغرب على إعادة النظر في العديد من المسلَّمات-كما سبقت الإشارة-وكان النظام الاجتماعي والسياسي السائد من بين الأمور التي احتاجت إلى إعادة تنظيم. وقد نشأت فلسفات جديدة من رحم التطوُّر العلمي، من بينها الفلسفة الوضعيَّة للمفكِّر أوغست كونت، والذي قسَّم تاريخ أوروبا إلى ثلاث مراحل؛ الأولى هي الثيولوجيَّة، والتي اعتقدت في وجود إله سامٍ فوق طبيعي، لا يُرى بالعين المجرَّدة؛ والثانية هي الميتافيزيقيَّة، والتي انتشرت بعد تراجُع الثيولوجيَّة في أعقاب الثورة الفرنسيَّة؛ والثالثة هي العلميَّة، أو الوضعيَّة، والتي كان الاعتماد الأساسي فيها على التدقيق العلمي، بما لا يدع مجالًا لافتراض الصدف.
يشير الكاتب إلى آراء ثلاثة من المفكِّرين الإسلاميِّين بشأن أشكال الحكومات في الدولة الإسلاميَّة، هم ابن المقفَّع، وابن خلدون، وابن الأزرق. وقد قسَّم هؤلاء الحكومات التي حكمت المسلمين إلى ثلاثة أنواع: حكومة دينيَّة، وحكومة سياسيَّة، وحكومة الشهوة والاستبداد. بدءًا بالحكومة الدينيَّة، فابن المقفَّع يصفها بـ “مُلك الدين”، وهي تقوم على تصريف أمور الناس وفق الشرع، فيُعطي الحقوق، ويقسِّم الواجبات، ويفرض العقوبات. أمَّا ابن خلدون، فهو يسمِّيها “خلافة”، ويراها تطبيق للشرع في الشؤون الدنيويَّة لتحقيق المصالح الأخرويَّة؛ فصلاح الدين من صلاح الدنيا، وصلاح الدنيا يضمن نعيم الآخرة، والعكس صحيح. في حين يصف ابن الأزرق الحكومة الدينيَّة بـ “المقام الأول” ويقصد بذلك “الخلافة بدون مُلك” (ص129). ما يعنيه هذا استغناء الحاكم عمَّا يصاحب المُلك من رغد في العيش، وترف وتنعُّم “بوازع من الدين” (ص129).
نأتي إلى الحكومة السياسيَّة، ويُطلق عليها ابن المقفَّع “مُلك الحزم”، ويوحي بالمسمَّى باستخدام الشدَّة في التعامُل مع الرعيَّة؛ ولذلك لا يخلو من التذمُّر أو السخط على الأحوال. أمَّا ابن خلدون، فهو يُطلق عليها “المُلك السياسي”، ويقصد بذلك تطبيق قوانين من وضع البشر في تسيير الأمور، وهذا ما يعيبها؛ والسبب بسيط، وهو-كما يقول ابن خلدون في المقدِّمة-لأنَّ المشرِّع وفق قوانين وضعيَّة “نظر بغير نور الله”، ويستشهد ابن خلدون بذلك بقوله تعالى في الآية 40 من سورة النور “وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ”؛ ويستطرد ابن خلدون في نقده تلك الحكومة، مفضلًا الاحتكام إلى شريعة الله تعالى “لأنَّ الشارع أعلم بمصالح الكافَّة فيما هو مغيَّب عنهم من أمور آخرتهم، وأعمال البشر كلُّها عائدة عليهم في معادهم في مُلك أو غيره…وأحكام السياسة (القوانين الوضعيَّة) إنَّما تطَّلع على مصالح الدنيا فقط”، ويستشهد ابن خلدون في ذلك بقول الحقِّ في الآية 7 من سورة الرُّوم “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”؛ ويواصل ابن خلدون إيضاح سبب تفضيله التشريع وفق القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة، وهو لأنَّ “مقصود الشارع (المشرِّع وفق المصادر الإسلاميَّة) بالناس صلاح آخرتهم، فوجب مقتضى الشرائع حمْل الكافَّة على الأحكام الشرعيَّة في أحوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحُكم لأهل الشريعة”؛ ويأتي ذلك على عكس هدف التشريع الوضعي الخادم للمُلك السياسي، الذي هو “حمل الكافَّة على مقتضى النظر العقلي، في جلب المصالح الدنيويَّة ودفع المضارِّ” (ص170-171). في حين يصف ابن الأزرق الحكومة السياسيَّة بـ “المقام الثاني” وفيه يختلط مفهوما الحُكم وفق الشريعة والحُكم بحسب السياسة. امتزج في هذا النوع من الحكومات تطبيق الشرع واتِّباع سياسات تخدم النظام الحاكم-ولو كانت ضدَّ الشرع-وينطبق ذلك على الفترة الأولى في حُكم الدولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة.
وأخيرًا، نأتي إلى حكومة الشهوة والاستبداد، والتي يُطلق عليها ابن المقفَّع “مُلك الهوى”، الذي يغيب عنه الاحتكام إلى الشريعة، ويسيطر عليه اتِّباع الأهواء. قد يرجع ذلك إلى الاستعلاء على الشريعة، واعتبارها قديمة وبالية ولا تصلح إلا لزمنها، وفي هذا إباحة لاتِّباع الشهوات وارتكاب الآثام بتعطيل العمل بالشريعة. ويعرِّف ابن خُلدون في المقدِّمة هذه الحكومة بـ “المُلك الطبيعي”، الذي يحكم العامَّة بحسب “الغرض والشهوة” الفرديَّة (ص48). ويعتبر ابن خلدون أحكام الحُكَّام من هذه النوعيَّة بالمُجحفة؛ لأنَّ مقتضاها “التغلُّب والقهر”، ونتيجة ذلك “تعسر الطاعة، وتجيء العصبيَّة المفضية إلى الهرج والقتل” (ص170). ولا يختلف ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك في طبائع المُلك عن هذا الرأي، معتبرًا أنَّ تلك الحكومة يبرز فيها الحُكم بحسب الشهوات، والانفلات الأخلاقي النابع من تدمير معاني الشريعة الدينيَّة؛ من هنا يأتي تسميته إيَّاها “المقام الثالث”. ويلخِّص ابن الأزرق رأيه في الحُكم بقوله “الأمر بدأ بنبوَّة ورحمة وخلافة، ثم يكون مُلكًا عضوضًا، ثمَّ يكون عتوًّا وجبريَّة وفسادًا في الأرض” (ص96).
لا ينكر عبد المهدي أنَّ الدولة الإسلاميَّة اعتمدت على بعض الأحكام الوضعيَّة في تأسيسها، تمامًا مثل الدولة الغربيَّة، لكنَّ تلك الأحكام لم تمثِّل نهايةً في حدِّ ذاتها في الدولة الإسلاميَّة، كما ينطبق على الدولة الغربيَّة. كانت الأحكام الوضعيَّة نقطة انطلاق وبداية في حالة الدولة الإسلاميَّة، حيث استدعتها الحاجة؛ “الإسلام لا يُنكر الحقائق الوضعيَّة، لكنَّه ينكر أن يقف عندها، أو أن يجعلها نقطة البداية والنهاية…الفارق بين الإسلام وما عداه هو أنَّ الفكر الآخر يقف في هذه الحدود، إمَّا في إطار الإنكار الكلِّي للدين، أو بتحريف الدين وجعله مسخَّرًا لمتطلبات النظرة الوضعيَّة، ولا شيء سواها” (ص132).
رأينا أنَّ تنحية الدين بالكامل، وفق رأي ابن المقفَّع وابن خلدون وابن الأزرق، يسفر عن الفوضى، وينذر بزوال النظام السياسي الحاكم بأكمله، مما يعني أنَّ الدولة الوضعيَّة المجرَّدة كان الفشل مصيرها في النهاية؛ ولا شكَّ أنَّ في تغليب المصالح الفرديَّة على المصالح العامَّة بدافع من سياسة أو قانون من أهم أسباب ذلك الفشل. حتَّى مع الجمع بين الدين والسياسة في دولة المُلك السياسي-وفق مصطلح ابن خلدون-لا بدَّ وأن يتغلَّب أحدهما على الآخر، والغلبة تكون في معظم الأحيان-لن نقول جميعها-للسياسة؛ ومن هنا يبدأ الضعف والاضمحلال، بتغليب الأهواء الشخصيَّة، استنادًا إلى الأحكام الوضعيَّة، دون سواها. ويُعزي الكاتب “خطأ وقصور” القوانين الوضعيَّة إلى “فقدان عنصر التوازن والتوحيد والعدليَّة والشموليَّة”؛ أمَّا الإسلام، فهو “دين التكامل والتوحيد”، الذي “وضع الأمور في نصابها الصحيح” (ص135). لم تترك الشريعة الإسلاميَّة أمرًا من أمور التعاملات الحياتيَّة إلَّا وأوضحته، بما يضمن خيري الدنيا والآخرة، وهذا ما ينقص الدولة بمفهومها الغربي. لا يوجد في الإسلام “مساحة تختصُّ بها العبادة، ومساحة أخرى تختصُّ بها السياسة”، ومشكلة الدولة الغربيَّة هي “أنَّ غياب التوحيد والشموليَّة والتوازن والعدل يمنعها من التعرُّف على عناصر الحياة متكاملة” (ص135).
وبعد استعراض كافَّة الجوانب الإيجابيَّة والسلبيَّة للدولتين الإسلاميَّة والسياسيَّة-لتقل المدنيَّة-وجد عبد المهدي أنَّ الحلَّ يكمن في تطبيق نموذج مستمدٍّ من الشريعة الإسلاميَّة يقوم على مفهوم “الولاية للدولة الإسلاميَّة” (ص136). ويُرجع الكاتب أسباب النفور من ذلك النموذج إلى انحرافات أُدخلت على صحيح الإسلام “أقامت دول الاستبداد والمُلك العضوض”، والذي-على حدِّ وصفه-“اتَّخذ إلهه هواه”، ضاربًا بعرض الحائط الموروث الديني الذي “ما ينطق عن الهوى”…هكذا، إذا ما تجاوزنا تلك الانحرافات، وأسسنا دولة تقوم على الشرع، و”تعمل بالمعروف وتنهى عن المنكر” (ص136). وبما أنَّ النظم السياسيَّة الوضعيَّة أثبتت التجربة تحيُّزها لفئة الحكَّام، وعدم نزاهتها الكاملة في اتِّخاذ القرارات وتنفيذ المهام، وإن ادَّعت الديموقراطيَّة بمنح مجلس النوَّاب الحقَّ في التشريع ومراقبة الدولة، يقترح عبد المهدي وجود مفهوم يجمع بين الدولة الدين، فيما أطلق عليه “حُكم الولاية وحُكم الأمَّة”، من خلال وضع سُلطتين غالبتين، إحداهما للحُكم، والأخرى للإفتاء والمراقبة. وفي هذا يقول الكاتب “لا بدَّ في الإسلام من حاكمين، ومن موقعين، ومن رقيبين، كلٌّ في موقعه ومكانه، يضبط عمل الدولة، ويراقبها، ويوجِّهها، ويصحِّحها…وهو ما توفِّره الولاية، أو الحاكم الشرعي، أو ولاية الفقيه” (ص139). ويبرهن انتصار ثورة الخميني، على حدِّ قول الكاتب، على نجاح مفهوم ولاية الفقيه.
(المصدر: رسالة بوست)