تجديد الخطاب الدّيني: مؤامرة متجدّدة لتحريف صحيح العقيدة 2من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
ميزات الحضارة الإسلاميَّة في رأي الحوالي
يستعرض الحوالي أهم ميزات الحضارة الإسلاميَّة، ويبدأها بأنَّها حضارة قوامها “البرهان واليقين”، وعمادها الحجَّة الداحضة لأيِّ تشكيك مبني على جهل بصحيح الرسالة السماويَّة (ص144). هرب الغربيُّون من “خرافات الكنيسة وضلالاتها”، وأصبح منهم “الشيوعي والوجودي والعبثي والسريالي والفوضوي”، واستندوا إلى مفاهيم “الحريَّة والديمقراطيَّة والعقلانيَّة، وغير ذلك من المبادئ والنظريات؛ ليحتموا بها من العقائد الكنسية، لا لأنَّها نتيجة تفكير هادئ متزن” (ص144). يضيف أستاذ العقيدة أنَّ حفظ الله تعالى للقرآن الكريم لم يدع مجالًا لتحريف الرسالة التي جاء بها خاتم النبيِّين، “فليس في الإسلام -والله الحمد-توراة أو أناجيل مجهولة المترجم، ليحكم في ثبوتها الكهنوت، فضلا عن كون أناجيلهم الرسمية متناقضة ونسخ التوراة مختلفة” (ص145). وقد تعرّض الله تعالى في قرآنه إلى اعتياد فريق من أهل الكتاب تزييف الحق وكتمان الوحي وتأويل كلام الله، بحسب ما يحقق مصالحهم الدنيويَّة، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى “فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ” (سورة البقرة: آية 79). أسَّس اليهود، في رأي الحوالي، ما يُعرف بالتأويل الباطني، الذي “تبعه عليهم المعتزلة والأشعريَّة، ثم بالغ فيه الباطنيَّة كثيرًا”، إلى أن ظهر في العصر الحديث ما يُعرف بالهرمنيوطيقا-Hermeneutics (ص146). وقد ردَّ الله تعالى على بدعة التأويل ببيان الحقِّ في الآية 7 من سورة آل عمران “فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”.
ثاني ميزة للحضارة الإسلاميَّة يذكرها الشيخ سفر الحوالي هي أنَّها “حضارة توحيديَّة”، مشيرًا إلى أنَّ العقائد الوثنيَّة كافَّة تقوم على ظاهرة التثليث، وهو ما سبقت الإشارة إليه بالتفصيل في دراسات سابقة، عن عقيدة المسيَّا المخلِّص، وعن القبَّالة وعقيدة بابل السريَّة. أمَّا الميزة الثالثة، فهي “ربَّانيَّة التشريع”، ويقصد بذلك الآراء الفقهيَّة التي تتضمَّنها المصادر الإلهيَّة للإسلام، أي القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، والتي تفصل في الأمور الحياتيَّة، “مع إتاحة الفرصة الكاملة للاختلاف والاجتهادات ووجهات النظر، في حدود القواعد الشرعيَّة والأصول الكليَّة، ومع المرونة الكاملة في التطبيق ومراعاة المصالح والمفاسد وتغييرها بحسب أحوال الأمة” (ص153). وقد سبقت الإشارة بالتفصيل إلى تشابُه العقيدة المسيحيَّة في أُسسها مع العقائد الإغريقيَّة الوثنيَّة في الدراسة السابقة عن وسائل التبشير والاستشراق. وينتقل الحوالي إلى الميزة الرابعة للحضارة الإسلاميَّة، وهي اتخَّاذها معيارًا للقوَّة يختلف بالكليَّة عن معايير القوَّة للحضارات الأخرى، وهو اعتبار أنَّ القوَّة الحقيقيَّة للمسلم في التقوى، وأنَّ البقاء للأتقى، وليس للأقوى، مصداقًا لقوله تعالى “تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” (سورة القصص: آية 83). وصدق رسولنا الكريم، فيما رواه عنه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّه-(ﷺ)-قَالَ “لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ”. نفهم من ذلك أنَّ معيار القوَّة ليس الشدَّة والقسوة والغلبة في صراع الأيدي، إنَّما في صراع النفس مع إغواء الشيطان؛ ولو طبَّقنا هذا على صراع المسلمين مع الغرب، لوجدنا أنَّ وعد الله تعالى بالنصر والغلبة لا يتحقَّق إلَّا بعد أن يُنفَّذ شرط وضعه الله تعالى قبل نصر المؤمنين، وهو التقوى؛ وصدق تعالى إذ قال في الآية 128 من سورة الأعراف “قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ“. ويقول الحوالي “ليست ريادة العالم هي التفوق الصناعي وإنتاج الأسلحة المسماة (ذكيَّة) أو بيولوجيَّة، ولا بالتقدم المادي والرقي العمراني، وإنَّما الريادة والإمامة بالصبر واليقين” (ص161).
تتمثَّل الميزة الخامسة للحضارة الإسلاميَّة أنَّها غير عرقيَّة، وليست لأمَّة دون سواها، ولا تدَّعي لأصحابها التميُّز، إلَّا بمعيار واحد، وهو التقوى، كما سبقت الإشارة. وقد رُوي عن رسولنا الكريم (ﷺ)، أنَّه قال في خطبة الوداع “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى“. ويأتي قول الرسول هذا مصدِّقًا لما قاله ربُّه في الآية 13 من سورة الحجرات “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“.
مُحمَّد (ﷺ) هو رسول للبشر أجمعين، كما أخبرنا الله تعالى في الآية 28 من سورة سبأ “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”، ولم يأتِ لإصلاح الاعوجاج الديني والفساد العقائدي لأمَّة بعينها، كما أُرسل نبي الله عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل، حينما انحرفوا عن جادَّة الحق، واتَّبعوا أهواءهم، كما قال تعالى في الآيتين(49-50) من سورة آل عمران “وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ“. لا شكَّ في أنَّ من موجبات تقوى الله إقامة العدل بين الناس، وهذه هي الميزة السادسة التي يحدِّدها الشيخ للحضارة الإسلاميَّة، “وأعظم العدل إنَّما يكون بالحكم بين الناس وفق كتاب الله قال تعالى” (ص170). لا عدل في ظلِّ اتباع سياسة مزدوجة المعايير في التعامل مع البشر، “وأكبر المطففين في عالمنا المعاصر هم الأمريكان، الذين يكيلون للفلسطينيين بمكيال ولليهود بمكيال آخر، ويشترون برميل النفط برخص ويصنعون منه أنواعا لا حصر لها يبيعونها على الدول النفطية نفسها بأضعاف مضاعفة” (ص171).
يعدِّد الحوالي الميزات الأخرى للحضارة الإسلاميَّة، ومن بينها التنوُّع في مظاهر التحضُّر وطلب العلم، والتسامح الديني مع الأمم غير المؤمنة وإتاحة التعدُّديَّة الدينيَّة من مبدأ “لا إكراه في الدين”، والعفو الإحسان؛ والمساواة بين العباد بلا تفرقة عنصريَّة؛ واحترام حقوق الأمم الأخرى في السلم والحرب والوفاء بالالتزامات تجاهها؛ والأسبقيَّة إلى العلوم والمعارف التي استفادت منها الحضارة الغربيَّة في تأسيس دعائم نهضتها؛ وإحلال الطيِّبات وتحريم الخبائث، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتعاليم الإسلام تنهى عن الترف والبطر وكُفر النعمة وإباحة الإفساد في الأرض بهدف تحقيق أهداف خاصَّة، وكذلك تجرِّم الحريَّة الشخصيَّة بما يتعدَّى على حدود الله، والممارسات الاقتصاديَّة المضرَّة بالآخرين، علاوة على موالاة الكفَّار ومحاباتهم على حساب المسلمين.
يضيف الحوالي إلى ميزات الحضارة الإسلاميَّة التيسير، مصداقًا لقوله تعالى في الآية 286 من سورة البقرة “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ”، وفي الآية 157 من سورة الأعراف “وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ”، والآية 78 من سورة الحجِّ “مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ”. ويضرب الشيخ المثل بحرمان اليهود أنفسهم مما أحلَّه الله تعالى لهم، إذا ما اعتنقوا الإسلام، في استمرارهم في ” ترك مباشرة المرأة الحائض، فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها، وأن يوم السبت لا يعملون فيه شيئًا حتى ركوب السيارة أو الطائرة، وهذا يشمل رؤساء الجمهورية ووزراء الدفاع، وأنَّ السنة السابعة لا يزرعون فيها ويسمونها سنة التبوير، وأنَّ البول إذا وقع على ملابس أحدهم قصصها” (ص237).
يشدِّد الحوالي على أهميَّة اتِّباع الشريعة الإسلاميَّة، المنزَّلة من الله تعالى لعباده لهدايتهم، وليس للتضييق عليهم، وفي ذلك يقول “وكل من خالف هذه الشريعة لا بدأن يقع في الجهل والنقص والشرك؛ ولذلك ينبغي للناس أن يتسع لديهم مفهوم الدين، ومفهوم العقيدة، ومفهوم الإيمان، ومفهوم الربوبية، ومفهوم الطاغوت، ومفهوم الجاهلية، ومفهوم العبادة، ومفهوم الطاعة، ومفهوم الشرك، ومفهوم التوحيد، ومفهوم السنة، ومفهوم البدعة، ومفهوم المعروف، ومفهوم المنكر، ومفهوم النظافة، ومفهوم السلامة، وأمثال ذلك مما اعتراه الغبش أو العدم، وتغير معناه خلال القرون” (ص242). وعلى النقيض من ذلك، نجد أنَّ الحضارة الغربية “تتخذ الهوى البشري إلهًا تعبده باسم الحريَّة، أو الحقوق الإنسانيَّة، أو الحقوق الطبيعيَّة” (ص243). وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم-رضي الله عنه-الذي كان قد تنصَّر في الجاهليَّة، أنَّه لمَّا سمع بقول الله تعالى في الآية 31 من سورة التوبة “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ“، أتي إلى المدينة المنوَّرة لمقابلة النبي، وأبدى اعتراضه على ما تقول الآية الكريمة؛ فعارضه النبي، قائلًا “إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم“. يشير قول النبي إلى أنَّ اتباع أهل الفسق، الحائدين عن شرع الله، يهدي إلى الشرك بالله تعالى، وفي هذا يقول الحوالي “فلا يكون العبد مائلا عن الشرك وشاهدا ألا إله إلا الله حقا إلا بخلع كل الأنداد والطواغيت والمعبودات من دون الله قديمها وحديثها، وفي أي صورة أو مظهر، وإن لم يفعل ذلك فهو عابد للشيطان” (ص246).
وعن التعاملات البنكيَّة وفق معايير الحداثة، يقول الحوالي (ص253-254)
ويعتبر الشيخ سفر الحوالي أنَّ من ميزات الحضارة الإسلاميَّة كذلك أنَّ “العبادات فيها تقوم مقام المحسوسات”، أي تؤدِّي أيَّ غرض من الممكن أن يؤدِّيه الإنسان بجهد شخصي. ويضرب الحوالي في ذلك المثل بنُصح النبيِّ فاطمةَ الزهراء وعليًّا، لمَّا طلبت فاطمة خادمًا، بتكرار قول سبحان الله والحمد لله والله أكبر (ص256).
صحيح العقيدة الإسلاميَّة ونشأة فِكر المعتزلة
يستعرض الحوالي العقيدة الإسلاميَّة، التي تكوَّنت مع تنزُّل الوحي الإلهي على خاتم المرسلين، الذي بعثه الله تعالى في زمن “جاهليَّة جهلاء وظلام مطبق”، اعتاد فيه الناس على عبادة الأوثان، دون أن يخرج من بينهم من ينهاهم عن فعلهم، أو حتَّى يستنكره عليهم، برغم وجود الفلاسفة والشعراء وأصحاب الرأي السديد؛ وقامت عقيدتهم في الحياة الدنيا على الحكمة القائلة “أرحام تدفع وأرض تبلع”، وهذا ما ينفيه الله تعالى في الآية 24 من سورة الجاثية “وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” (ص304). ومع كلِّ ذلك، اختلف رسولنا وحبيبنا مُحمَّد (ﷺ) عن قومه في الفكر الديني، الذي كان حنيفًا، على ملَّة أبيه إبراهيم، ولم يشارك قومه في عبادة الأصنام منذ صباه، وتشهد بذلك قصَّته مع الراهب بحيرى، حينما قال له النبي أنَّ أصنام قريش أبعض شيء لديه، لمَّا سأله الراهب عنها. ومن المثير للاهتمام أنَّ من قريش من لم يعبد أصنامها قبل البعثة النبويَّة، مثل نبيِّنا مُحمَّد (ﷺ)، مثل زيد بن عمرو بن نفيل، الذي قُتل خلال رحلة بحثه عن صحيح رسالة السماء، ولم يكن يعرف أنَّ مُحمَّدًا بن عبد اللاه، القرشي الصالح، هو نبي آخر الزمان، الذي كان يُترقَّب ظهوره في مكَّة حينها.
سادت في العرب في الجاهليَّة محاسن الأخلاق، من شهامة، وكرم، وحفظ للمحارم؛ ولكن سادت فيهم كذلك العديد من الموبقات، من زنا، وشُرب للخمر، واستعباد للناس، وشرك لله تعالى. غير أنَّهم، على شركهم، لم يؤمنوا بالفلسفات الإغريقيَّة، المروِّجة لمفهوم للألوهيَّة شديد الاختلاف عن صحيح الرسالة السماويَّة، بل كانت حُجَّتهم في عبادة الأصنام “لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى”، معترفين بوجود الله (سورة الزمر: آية 3). جاء بيُّنا الكريم بالهدى ودين الحقَّ؛ فأظهره الله على الدين كلِّه، وصار إمام الموحِّدين، عابدي الله حقَّ العبادة إلى يومنا، وإلى قيام الساعة، وكان (ﷺ) “شديد الإنكار على البدعة وأهلها، ويحذر المسلمين منها” (ص305). علَّم النبي الكريم صحابته صحيح الدين، وأمرهم بنشر رسالته؛ باعتباره خاتم المرسلين، ورسولًا للناس كافَّة، وأدَّى الصحابة الأمانة، وكان خير من أؤتمن. كان الصحابة، كما يصفهم الحوالي، “أئمة مجتهدين، يقولون ما يعتقدون أنه الحق، ويصدعون به، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولا يمنعون أحدًا عن إبداء رأيه، ويتفقون على متابعة الكتاب والسنة قلّت رواية أحدهم أو كثرت، ولم يكن فيهم من يكذب على الله ورسوله مطلقًا، بل لا يعرفون الكذب على أحد من البشر مسلمًا أو كافرًا، والحكمة ضالتهم جميعا، وكانوا هداة مهتدين قليلي التكلف، وفي كلامهم القليل علوم نافعة كثيرة، وكان أحدهم جامعة متحركة” (ص306).
استمر صحابة خاتم المرسلين على هذا النهج، لكنَّ الفتنة التي وأدها الرسول ما لبثت أن ظهرت، وإن تدثَّرت بثوب مخالفة الرأي، ومعارضة العقيدة، التي تركها الرسول. وفي عهد الخليفة الرابع، عليٍّ بن أبي طالب، ظهرت فرقتان ضالَّتان، هما فرقة الزنادقة، متكوِّنة من غلاة الروافض، بزعامة عبد الله بن سبأ، وفرقة الخوارج، وهي فرقة من الغلاة المتطرِّفين، من أصحاب البدع في الدين، والرافضين لصحيح العقيدة، التي اتَّفق على مضمونها عامَّة الصحابة، وأُطلق عليهم “خوارج” لخروجهم عن صحيح العقيدة، وعن طاعة وليِّ أمرهم الإمام عليٍّ. ظهرت بعد ذلك فرقٌ ضالَّة أخرى، محسوبة على الإسلام، ولكن تخالفه في أُسسه العقائديَّة، ومن بينها القدريَّة والمعتزلة. يُعتبر واصل بن عطاء الغزَّال مؤسس فرقة المعتزلة، لمَّا اعتزل مجلس إمام أهل السُّنّة الحسن البصري بسبب خلاف على حُكم مرتكب الكبائر. واشتهرت هذه الفرقة بدعوتها إلى تقديم العقل على النقل، ورفضها الأحاديث النبويَّة التي تتعارض مع العقل. وهناك اعتقاد سائد بأنَّ فكر المعتزلة ظهر مع نهاية القرن الأول على بعثة النبي، واختلاط المسلمين-ممن لم يعاصروه-بأمم جديدة، وتأثُّرهم بفلسفاتها؛ فنشأت عقيدة المعتزلة تأثُّرًا بالمذهب العقلاني السائد في الثقافات غير الإسلاميَّة. ويصف أئمَّة أهل السُّنَّة هذا المذهب بالمنحرف عن صحيح العقيدة، الذي يزعزع ثوابت الدين، ويشكِّك في أصول العقيدة، وفق ما رآه الدكتور سهل بن رفَّاع العتيبي-أستاذ العقيدة الإسلاميَّة في جامعة الملك سعود-الذي يصف دعاة إحياء مذهب المعتزلة في الآونة الأخيرة بـ “من قلَّت بضاعتهم وثقافتهم من علم الكتاب والسُّنَّة، فوقعوا فريسة لهذا المنهج الخاطئ” المتسبب في تأخُّر الأمَّة الإسلاميَّة، وفق ما جاء في بحث المعنون التيار العقلي لدى المعتزلة وأثره في حياة المسلمين المعاصرة (2006). انشغل المعتزلة بالتجربة العمليَّة، وأفرزت اجتهاداتهم ما يُعرف بعلم الكلام، الذي ” اشتمل هذا العلم على ضلالات كثيرة، منها قياس عالم الغيب على عالم الشهادة”، كما يرى الحوالي (ص307).
اعتبر المعتزلة علماء السُّنَّة حجر عثرة في طريق نشرهم عقيدتهم الخارجة على صحيح عقيدة الإسلام، ويشير الشيخ سفر الحوالي إلى قول نُسب إلى المأمون-الخليفة العباسي، وثاني الخلفاء من أبناء هارون الرشيد، من زوجته الفارسيَّة مراجل، وتلميذ المعتزلي أبي الهزيل العلَّاف-بأنَّه لولا يزيد بن هارون، لأعلن “خلق القرآن”. ويزيد بن هارون هو أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، الذي تحمَّل الأذى الأكبر في محنة “خلق القرآن”، التي حدثت بسبب معارضة بن حنبل ادِّعاء المعتزلة أنَّ القرآن الكريم مخلوق من عند الله، وليس كلامه المنزَّل على النبي(ﷺ) وحيًا. إذا اعتبرنا صحَّة خلق القرآن، فهذا يعني أنَّه ليس أبديًّا، إنَّما هو خاضع للتطبيق العملي؛ بسبب الاستناد إلى العقل في تفسير نصوصه، مما يعني أنَّ المتعارض منها لا يستقيم الجمع بينه. كفَّر الإمام أحمد بن حنبل القائلين بخلق القرآن، ولم تنتهِ المحنة إلَّا في عهد الخليفة المتوكِّل بن المعتصم بن هارون الرشيد. وبرغم وأد تلك الفتنة في ذلك الحين، فإنَّ ذلك لم يمنع ظهور فتن أخرى، منبعها فلسفات الأمم الوثنيَّة، ومن أشهر الفرق الخارجة على صحيح العقيدة فرقتا بني بويه وبني عبيد، ويُعتبر الفارابي من أشهر فلاسفة تلك الفئة، وتخرَّج من مدرسته ابن سينا، العالم والفيلسوف والطبيب، الذي نشأ “عبيديًّا إسماعيليًّا، كما اعترف هو بذلك” (ص309).
عاد بعض المعتزلة إلى السُّنَّة النبويَّة، ومن بينهم أبو الحسن الأشعري، والذي يُعتبر من أعلام أهل السُّنَّة، ويُنسب إليه المذهب الأشعري، لكنَّ هذا لم يمنع استمرار المعتزلة في الخروج ببدعهم، ومن بينها بدعة الرفض، وبدعة الباطنيَّة، وبدعة المتكلِّمين، وتطوَّر الأمر إلى حدِّ ظهور العمل بالتنجيم، إلى جانب الفلسفة. ويقول الحوالي عن حرص أصحاب المذهب الباطني على إخفاء انتمائهم العقدي “وكلُّ من ألَّف في الفلسفة لا بد أن يؤلف في نصرة الشريعة لكي يسكت عنه عامة الناس، أو يدعي الجمع بينهما، أو يدعي أن تلك كفريات منسوبة إليه ولم يقلها، وهكذا أهل البدع والعلمنة مخذولون مرذولون قليلو الأتباع، وصدق الإمام أحمد حين قال’’ بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز’’. وامتزج الرفض بالاعتزال، والباطنية بالفلسفة والتصوف، وكثرت الفتن، وضعف أهل الحديث، واشتغل كثير منهم بغرائب الإسناد وعواليه عن الدعوة إلى حقيقة الوحي “(ص309). ويرى الشيخ أنَّ انتشار البدع في أرجاء العالم الإسلامي لم يُثنِ أتباع العقيدة الحقَّة عن مواصلة التزامهم بشرع الله تعالى الأصيل؛ فالرفض والإرجاء والتصوُّف، وغير ذلك من المحدثات، لم تؤثِّر في صحَّة إيمان المؤمن الحقِّ. وثبتت طائفة من أهل الإسلام في زمن الغزوين الصليبي والمغولي، وظلَّت “تجاهد على أمر الله لا يضرها من خذلها أو خالفها، وهكذا أحيت الأمة فريضة الجهاد”، ولم تقبل تحريف صحيح الرسالة بالمحدثات النابعة من فلسفات الأمم الكافرة الهالكة بإثم كفرها (ص311). ويضرب الحوالي المثل في الالتزام بشرع الله تعالى والثبات على طاعته بنور الدين محمود وصلاح الدين الأيُّوبي.
(المصدر: رسالة بوست)